توفيق الحكيم يدين نفسَه والورثة ينسون
قد تقدّس شعوبٌ تعيسة بؤسَها. تقيم لها الطقوس وتحتفل. ربما تتفاخر بهزائمها ظنّا أنها كانت انتصارات. قد يُحاكم بعضها أسبابا أدّت إلى البؤس، ويسوق شخوصا أو جماعات من التاريخ ليحمّلها الجرائر، ظنا أن ذلك كافٍ لإنهاء التعاسة. مع الوقت، يظهر أن الحال لم يتغيّر، وأنّ الماضي يعود، غالبا، بعناوين جديدة. من عوامل ذلك أن ما يُحاكم هو عناوينُ مرحلة مضت، لا مضامينَها وأسبابها ووعيها. في النهاية، هي تنسى أخطاءها.
هنا، لا يمتلك المرءُ سوى احترام كاتبٍ مِثل توفيق الحكيم، عندما جلَد نفسَه على عماه العاطفيّ عن جرائر جمال عبد الناصر. كتب في "عودة الوعي" عن ثورة يوليو المصرية وزعيِمِها "ماذا سيقول التاريخ في الذي جرى في عهد هذه الثورة … هل نطمع أن يبرّئَنا؟ إني أرجو أن يبرئ التاريخُ عبدَ الناصر، لأني أحبّه. لكني أرجو أن لا يبرّئ التاريخُ شخصا مثلي، يُحسب في المفكّرين، وقد أعمتْه العاطفةُ عن الرؤيةِ وفقَدَ الوعيَ بما يحدث حوله".
على خلاف ما أحبَّ الحكيمُ، لم ينس التاريخُ فعْلَ عبد الناصر، متفاخرا به أو ناقما على فعالِه. شرائحُ مصرية وناطقةٌ العربية تمجّد محاسنَه متناسيةً مصائبَه واستهتاره، مقابلَها مَن لا يتوانون عن محاكمته بما يصل أحيانا إلى حد عدم الموضوعية في النقد. في النهاية، لا ينسى الضحايا جوهرَ المشكلة، حتى لو غفلوا عن تفاصيل تخفّفُ من وقْعها. غير أنّ التاريخ نسيَ أنْ يوفرَ لتوفيق الحكيم ما رغب: إدانتَه، وهو المحسوبُ على المفكّرين، على اندفاعه في دعم الزعيم المصري.
نسي التاريخ أنْ يوفرَ لتوفيق الحكيم ما رغب: إدانتَه، وهو المحسوبُ على المفكّرين، على اندفاعه في دعم الزعيم المصري
ليس ما فعله عبدُ الناصر أو غيرُه من الحكام القولَ الفصلَ فيما يفترض أن نفهمه بعد وفير من الأعوام. ولا أيضا أنْ يقرّ كاتبٌ مصري مهمٌ بخطيئته. في المحصلة، إدانةُ الماضي وفق شروط الحاضر (الحاضروية Presentism) نهجٌ بعيدٌ عن المنطق. مركز المشكلة كمُنَ، وما يزال، في اجترارِ الخطأ بعناوينَ جديدةٍ توهِمُنا أننا لا نكرّر أنفسَنا وخطايانا. بتعبير آخر، ليست إدانة أخطاءِ الماضي ذات معنى حالَ أخذت طريق محاكمة التاريخ بصفته تاريخا، إنما عميق معناها في محاكمة الماضي بوصفه درسا للراهن والمقبل. ولأني أظن أن التفسير بالتمثيل أفضلُ الطرق لتوضيح المعنى، أظنّ أن بعض الأمثلة قد تساعد على فهم كيفية تكرارنا الأخطاء.
في جلسة أصدقاء، لامَ أحدُهم شكوكيَ في نيات مقتدى الصدر في العراق. حيث عبّرتُ عن ذلك في مقالات عامةٍ وحواراتٍ خاصة. هو لم يلُم الشكوكَ بالتحديد، بل انتقد تمييزيَ الأولويات. لأنه من بلدٍ يئن من سوء التدخل الإيراني، ولأن الصدرَ يصرّح بمواجهة المشروع الإيراني. لذا، من وجهة النظر هذه، علينا أن نصمت عن أيّ شيء آخرَ يثير الخشية من الصدر (الثيوقراطي ـ المليشياوي) لصالح ضرورة مواجهة الثيوقراطية المليشياوية الإيرانية. من وجهة نظر اللائم، تأجيلُ نقد خصوم إيران، مهما كانوا، أمرٌ ضروري. وجهة نظر تجترُّ الكوارثَ ذاتَها المعتادةَ منذ تأسيس الدولة الحديثة في عديد من البلدان ناطقة العربية.
يعود هذا التفكير إلى عقود سالفة، يوم ظلّت الأولويةُ إخراجَ الاستعمار. الخطابُ، المحاطُ وقتئذ بكثير من محاولات جعْلِه منطقا سليما، كان إخراجَ المستعمر واستقلال البلدان بمعزل عن النظر إلى الطرف الذي وجب الوقوف معه لتحقيق ذلك. استدعت النخبُ السياسية، بتصفيق مشتغلين كثر بالأفكار والآداب، ضباطَ العسكر والأحزابَ العقائدية، باعتبارها، آنذاك، الوحيدةَ البديلة القادرة على دعوة الأتباع، والقيامِ بالانقلابات أو الثورات كما تسمّى اليوم في مجتمعاتٍ تعشق اسم الثورة كما لو أنها بستان كرْم. حين جاء البدلاءُ حكموا طويلاً جدا مستخدمين ذريعة حماية الأمن الوطني أو القومي أو العروبي لقمع الخصوم والناسِ عموما.
لا يمتلك المرءُ سوى احترام كاتبٍ مِثل توفيق الحكيم، عندما جلَد نفسَه على عماه العاطفيّ عن جرائر عبد الناصر
اليوم، كثيرون منا يدينون أولئك الحاكمين، نعارضهم ونقف في الجانب الآخر من تموضعهم، أيديولوجيا أو سياسيا أو أخلاقيا. لكن، هل نتذكّر ذلك ونحن نكرّر الأقوال ذاتها مع تغيير العناوين؟ نسي كثيرون في هذه النقطة توفيقَ الحكيم واعترافَه، رغم تذكّرهم عبد الناصر وأفعالَه. نسيان الخلف ما قاله الكاتب المصري يمثل حجر الزاوية في اليوميات الراهنة، حيث يُجتر الخطابُ الفكري في أكثر من بلد شرق أوسطي. التعامل ثقافيا مع الأزمات وفق منطق الأولويات نفسه يعاني من اختلالٍ في تحديد الأولويات، وأيضا من سوء تقدير ما إذا كانت القصة قائمةً على فهمِ سلّم ما يأتي في البدء وما يلحقه تاليا. الإشكالية في التفكير داخل المنظومات، الفكرية والسياسية والاجتماعية، المنتجة خطاب التغيير أنها لا تعتمد على العثور على فرصةٍ تحوّلٍ تحوْلُ دون تكرار الماضي بحلل جديدة. هي تبحث عن التغيير، إلا أنها تفعل ذلك انفعالا، وبالتالي، تجد نفسها مضطرّة من جديد إلى الانخراط في ملحمةٍ كانت فيها سابقا. إنها منظومات مثيرة للشفقة.
مما يثير الشفقة، مثلا، أن بعض الخطاب المعارض للنظام السوري راهنا، يتحدّث، مدفوعا من دول شرق أوسطية، بمنطق ضرورة تحييد دمشق عن طهران أولوية حتى لو لم يؤدّ إلى إسقاط الأسد. هناك من يريد التعامل مع روسيا وليس مع إيران، ومن يدافع عن إعلان الرئيس التركي أردوغان ضرورة عقد قمة مع من أطلق عليه صفة الزعيم السوري، ومن يفسّر اللقاءات بين مسؤولين من موسكو وأنقرة ودمشق بأنها ضرورة انتخابية لإسلاميي تركيا، أو أن المهم أن طهران غائبةُ عن التسوية، وغيرها من مبرّراتٍ تشي بأن الخلل يُعاد. كأن الناسَ خرجت ضد نظام البعث السوري رغبةً بالتخلص من النفوذ الإيراني الذي لم يكن بالحجم الذي عليه حاليا، وليس بالتخلّص من منظومة حكم دكتاتورية مدمّرِة كان لا بد أن تزول.
لأن المدوّنة نسيت تماما اعترافَ أمثال توفيق الحكيم، تُكرّرُ أفعالَها وستفعل ذلك بإصرار. الفرق أن الاستعمار، الذي عمل الأحزاب الأيديولوجية وبعض الأحزاب شبه الليبرالية، كان شمّاعةَ إيصالِ أكثرِ المستبدّين تشوّها في التاريخ الحديث للمنطقة، ورثة عبد الناصر: صدّام حسين ومعمّر القذافي وحافظ الأسد وجعفر نميري… وفي الوقت الراهن سياقات أخرى، يُدعى الكلُ للقضاء عليها، حتى لو كان ذلك بالتحالف مع "الشيطان". نظامُ خامنئي الشيعي أحد السياقات. هناك أيضا مواجهةُ مشروع الإسلام السياسي السنّي، متمثلا بـ "الإخوان المسلمين". إذ دافع كثيرون من المشتغلين بالأفكار في البلدان الناطقة بالعربية عن السياسات التي أعادت الاستبداد إلى مصر بطريقة مخيّبة أكثر من أي مرحلةٍ مضت. وتعيد مشروع الحاكم "الوطني" لتونس، وهو يدافعُ عن شرعيته عبر انتخاباتٍ تشريعيةٍ لم يشارك فيها سوى 11%. مسارٌ مثير للشفقة فعلا ما عليه تلك البلدان، وهي تعيد إنتاج أخطائها بإعادة تفسيرها عبر تغيير العناوين فقط. وإذا سُئلتْ فسيقول مُجيبٌ إن عبد الفتاح السيسي ليس عبد الناصر وقيس سعيّد ليس زين العابدين بن علي.
لا دليل في أدبيات الإخوان المسلمين على قبول الديمقراطية، بل اضطرّوا إليها لأنها خيار راهن أمامَ الأسرة الدولية والجماعات المحلية
يستحيل نفيُ أن النظام الإيراني قائمٌ على الكراهية المدجّجة بالسلاح في الشرق الأوسط بل في مناطق أخرى، وزوالَه أحدُ شروط تخفيفِ الجحيم. والإخوان المسلمون ليسوا أفضل حالا من شبيههم العقائدي في طهران، ما داموا يؤمنون بأن عقائدهم السياسية هي ما يريدها الله. ومن أجل ذلك، يدبّون دبيبَ النمل لتحقيق ما يريدون مستخدمين الديمقراطية، التي لا يوجد دليل واحد من أدبياتهم ومرجعياتهم على قبولها، بل اضطرّوا إليها لأنها خيار راهن أمامَ الأسرة الدولية والجماعات المحلية. لكنّ هذا ليس بيتَ القصيد. لبُّ المشكلة بابُ الشر المفتوح أمام إعادة الماضي والعودةِ إلى وعي أربعينيات القرن الماضي وما بعده وكأن ما كان لم يكن. بمعنى استرجاع الأسباب نفسِها التي جعلت الناس يئنون في الوقت الراهن موجوعين من أولويات العصر السابق. بالتالي، تُنسى محاكمةُ توفيق الحكيم نفسَه.
إدانة "مفكر" ذاتَه عنوانٌ عريضٌ يُقرأ بصوت عال، ليس بوصفه درسا في أن الاعتراف بالخطأ فضيلة، إنما باعتباره درسا في الخطأ نفسِه. هذا لا يعني القبول بأن يدافع الفعل الثقافي/ النقدي ولو ضمنا عن الكوارث الحادثة خوفا من البدائل القادمة، كما فعل أدونيس أو سعدي يوسف أو جابر عصفور، أو غيرهم. ولا يعني كذلك أنه كفيلٌ بتغيير الوضع، وأن التعلم من الأخطاء شرطٌ وحيد لضمان عدم تكرارها. هناك عوامل أخرى أقوى، مرتبطة بمراكز قوى داخلية وعوامل اقتصادية وسياسية ومجتمعية عدة وإرادات عابرة للحدود والقارات. إلا أن انجرافَ الفعل الثقافي / النقدي خلف ما تريده تلك العواملُ يكرّسها ويُحِلّها من أي مساع إلى مواجهتها. أيْ، إن دورَ هذا الفعل هو التقليل من الخسائر، وعلى أقل تقدير، عدمُ التورط بشرعنة البدائل تحت عنوان التخلص من وضع سيئ راهن، حتى لو كان ببديل سيئ لاحق.
العملية النقدية، ثقافيةً سميِتْ أم فكريةً أم معرفية ..، المرتبطةُ بأولويات الظروف الراهنة من دون النظر إلى ما عداها، إلى جانب أنها تؤدّي إلى تكوين عقيدة سياسية أو اقتصادية أو مجتمعية مبنية على لحظة حالية، سيظلّ أثرها مستمرّا وقد يصبح ثابتا. سيجد أصحابُها أنفسَهم في موقع ذلك الكاتب المصري وهو يشعر بالخجل مما فعل. وربما كان محظوظا لأنه أدرك، فكثير من ورثته وورثة جيله لا يدركون أو إنهم يعرفون ولا يعترفون، بل يمجّدون حتى أخطاءَهم.