تونس تتّجه شرقاً
منذ قيام دولة الاستقلال في تونس (1956)، واعتماد النظام الجمهوري (1957)، حرصت سلطات هذه الدولة على توطيد علاقاتها الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والعسكرية، بالغرب، ممثلا في أوروبا والولايات المتحدة. وتجلّى ذلك من خلال زيارة الرئيس/ المؤسّس الحبيب بورقيبة لواشنطن ولقائه الرئيس الراحل جون كنيدي (3 ـ 5 مايو/ أيار 1961)، وحديثه معه بشأن سبل تطوير التعاون الاقتصادي بيْن البلدين. كما كانت للنظام البورقيبي ارتباطاتٌ وثيقة بفرنسا، فقد ظلّت هذه عقوداً الشريك التجاري الأوّل لتونس. وتأثّر مؤسّس الجمهورية الأولى بنظامها الليبرالي، وحافظ على مصالحها الحيوية في البلاد، حتّى أنّ عمدة باريس برتران ديلانوي دشّن نصبا تذكاريا للزعيم التونسي الراحل في الدائرة السابعة بباريس (20/03/2013). ولمْ يحِد خلفه زين العابدين بن علي عن هذا النهج، فهو خرّيج المدرسة العسكرية الفرنسية، وكان مواليا لواشنطن وتلميذا نجيبا للبنك الدولي، وتوطّدت خلال حكمه علاقات النظام بأوروبا مع إبرام اتفاقية شراكة بيْن تونس والاتحاد الأوروبي (1995). في المقابل، كانت علاقة بن علي وسلفه بالمعسكر الشرقي عموما، وبالاتحاد السوفييتي خصوصا، باهتةً قبْل سقوط جدار برلين (1989) وبعده. وإبّان ثورة 2011، استفادت تونس من أموال الريع الديمقراطي، ومن مساعدات مادّية، ولوجستية، وعسكرية مهمّة، صدرت أساسا عن محور "الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، تركيا، قطر"، وأبرمت تونس اتفاقيات تعاون اقتصادي وعسكري مع تلك الأطراف، وظلّت علاقتها بروسيا باردة.
مع صعود قيس سعيّد إلى كرسي رئاسة الجمهورية، وقيام ما يُعرف بمسار25 يوليو/ تموز (2021) آلت علاقة تونس بذلك المحور إلى الجفاء نسبيّاً، واتجهت السياسة الخارجية التونسية إلى تعزيز علاقاتها سياسيا واقتصاديا بدول الشرق (روسيا، الصين، إندونيسيا، سورية، مصر، إيران). لذلك من المهمّ البحث في تجلّيات توجّه تونس شرقاً وخلفياته، ومدى نجاعته في حلحلة أزمات البلاد المتعدّدة.
سياسيا، بدت علامات التوجّه شرقا واضحة من خلال مبادرة الرئيس قيس سعيّد بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع سورية التي ظلّت مقطوعة منذ اندلاع الثورة السورية ضدّ نظام بشّار الأسد، وتنظيم تونس مؤتمر أصدقاء سورية (2012). واستقبل سعيّد وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في قصر قرطاج (18/04/2023)، وأثنى الأخير على "القرارات الجريئة والشجاعة التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد"، في إشارة إلى التدابير الرئاسية بعد حركة "25 يوليو". وفي السياق نفسه، تعزّزت علاقات تونس بجمهورية إيران الإسلامية، وتأكّد ذلك بلقاء سعيّد الرئيس إبراهيم رئيسي في القمّة السابعة لمنتدى الدول المصدّرة للغاز بالجزائر (02/03/2024). وأعرب الطرفان عن وجود إرادة حقيقية لتطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتبادل التجارب والخبرات والزيارات الرئاسية بين البلدين. كما سبق أن أدّى سعيّد زيارة رسمية إلى مصر تلبية لدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي. وتوطّدت وتيرة التنسيق الدبلوماسي والسياسي بين الجانبين إثر تلك الزيارة، وتأكّد ذلك بعد 25 يوليو/ تموز 2021.
ولكنّ التوجّه شرقاً اكتسى أهمّية معتبرة بتعزيز تونس علاقاتها بدول كبرى. ففي 21 ديسمبر/ كانون الأول 2023، استقبل الرئيس التونسي بقصر قرطاج وزيرة الخارجية الإندونيسية ريتنو مرصودي، التي عبّرت عن "ارتياح بلادها لمستوى علاقات التعاون والتشاور والتنسيق التي تجمعها بتونس". في اليوم نفسه، استقبل قيس سعيّد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف، حيث بحثا تعزيز العلاقات بين البلدين في عدّة مجالات. فيما أدّى وزير الشؤون الخارجيّة الصيني وانغ يي زيارة إلى تونس بين يومي 14 و16 يناير/ كانون الثاني 2024، التقى خلالها وزير الشؤون الخارجيّة التونسي والرئيس سعيّد، وصرّح "نحن ندعم بقوة الرئيس قيس سعيّد ممثلاً وقائداً للشعب التونسي... ونؤيّد تعزيز الإصلاحات الداخلية ودفع الوعي القومي"، مؤكّداً على دعم سيادة تونس واستقلالية قرارها، رافضا التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بذريعة حقوق الإنسان والديمقراطية. وسبق أن التقى الرئيس التونسي قيس سعيّد مع نظيره الصيني شي جين بينغ، في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2022 في الرياض بمناسبة انعقاد القمة العربية الصينية وجرى التأكيد على اكتشاف فرص تعاون جديدة للشراكة بين الصين وتونس في مجالات متعدّدة.
واللافت أنّ دول الشرق المذكورة تعتمد نظام حكم مركزياً يمنح رئيس الدولة نفوذاً واسعاً. لذلك لم تُبد اعتراضاً على سياسات قيس سعيّد الأحادية، وعلى استبداله النظام البرلماني المعدّل بنظام رئاسي مطلق، وتجميعه كلّ السلطات بيده، على خلاف معظم البلدان الغربية التي أبْدت تحفظات واسعة على مسار 25 يوليو ومخرجاته، خصوصاً ما تعلّق بتفكيك دعائم التجربة الديمقراطية، وتراجع الحريات، واعتقال رموز في الأحزاب السياسية في تونس.
ناورت تونس بالاتجاه شرقا، نحو روسيا والصين لتبعث رسائل إلى الجهات المانحة الغربية مفادها قدرتها على تنويع شراكاتها وتوفير بدائل مالية خارج دائرتي الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي
واقتصاديا، تجلّى النزوع نحو الشرق من خلال تكثيف الدبلوماسية الاقتصادية التونسية اتصالاتها مع روسيا والصين، خصوصا بعد أزمة كوفيد 19، والحرب الروسية على أوكرانيا، وارتفاع أسعار الطاقة، وندرة إمدادات الحبوب. وأشار الوزير سيرغي لافروف إلى أنّ حجم التبادل التجاري بين روسيا وتونس يقدّر بنحو 1.5 مليار دولار. وارتفع حجم الصادرات من روسيا إلى تونس وفي الأشهر العشرة الأولى من عام 2023 بنسبة 3.67% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022. وأهمّ المنتجات الرئيسية التي تصدّرها موسكو إلى تونس هي النفط الخام والغاز الطبيعي المسال والحبوب والأسمدة، واستوردت البلاد 412 ألف طن من الحبوب من روسيا خلال النصف الثاني من سنة 2023، ونحو 77 ألف برميل من الديزل الروسي يوميا في فبراير/ شباط 2023. ودلّ ذلك على تنامي الحضور الروسي في السوق التونسية، ومكّن البلاد من التخفيف، ولو نسبياً، من أزمة نقص موادّ استهلاكية، حيوية، في مقدّمتها القمح والبنزين.
وفي مستوى تعزيز العلاقات مع الصين، انضمّت تونس إلى مبادرة الحزام والطريق سنة 2018، وتمّ توقيع مذكرة اتفاق بين البلدين يقضي بإنجاز مشاريع تنموية صينية في تونس، وافتتحت منظمة طريق الحرير للتعاون الثقافي والاقتصادي الدولي الصينية (سيكو)، مكتباً لها في تونس (سيكو تونس)، هو الأول في أفريقيا، وذلك لإدراك الصين أهمّية الموقع الاستراتيجي لتونس باعتبارها بوّابة مفتوحة على أفريقيا، ونافذة إلى أوروبا. وتعدّ الصين ثالث أكبر مصدّر للسلع الاستهلاكية إلى تونس منذ سنة 2021، حيث بلغت قيمة الصادرات السنوية في ذلك العام 2.2 مليار دولار. ودشّن وزير الخارجية الصيني أخيرا الأكاديمية الدبلوماسية الدولية بتونس التي موّلتها الحكومة الصينية بكلفة قدْرها 69.29 مليون دولار. وفازت شركات صينية بجُلّ المناقصات التي طرحتها تونس في مجال البنية التحتية والأشغال العامة، لقدرتها على تقديم عروض مالية وفنّية مغرية وتنفيذ مشاريع بكلفة أقلّ من الدول الأوروبية. ومن بين المشاريع المسندة إليها أشغال المستشفى الجامعي في صفاقس والمركز الشبابي والرياضي في بن عروس، وتحديث قناة لمياه الري في الوطن القبلي، وبناء الجسر الرئيسي الرابط بين الطريق السيارة a4 ومدينة بنزرت.
المرجّح، بحسب مراقبين، أنّ تونس لا يمكن أن تذهب بعيداً في اقترابها من الصين وروسيا، ولا يمكن أن تتوصّل إلى تحقيق شراكة شاملة متوازنة معهم
ويمكن عمليّاً تفسير هذه الانعطافة الرسمية التونسية نحو الشرق بعدّة أسباب، منها وجود خلاف بين تونس وشركائها الغربيين في خصوص تقييم عشرية الانتقال الديمقراطي والتدابير التي أقدم عليها سعيّد بعد 25/07/2021. ففي وقتٍ يعتبر فيه النظام الحاكم تلك التدابير خطوات إصلاحية، تنظر إليها أطراف غربية بريبة، وتعتبرها تقويضا للتجربة الديمقراطية، وتخشى من انحدار تونس نحو نظام سلطوي، شمولي، مطلق. وقد ألقت الفجوة السياسية بيْن الجانبين بظلالها على المسار الاقتصادي، فتعطّلت مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 1.9 مليار دولار، وتعثّر تطبيق محامل مذكّرة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي بشأن مكافحة الهجرة غير النظامية. لذلك ناورت تونس بالاتجاه شرقا، نحو روسيا والصين لتبعث برسائل إلى الجهات المانحة الغربية مفادها قدرتها على تنويع شراكاتها وتوفير بدائل مالية خارج دائرتي الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي.
ولكنّ المرجّح، بحسب مراقبين، أنّ تونس لا يمكن أن تذهب بعيداً في اقترابها من الصين وروسيا، ولا يمكن أن تتوصّل إلى تحقيق شراكة شاملة متوازنة معهما، ذلك أنّ الاقتصاد الروسي استنزفته الحرب في سورية وأوكرانيا، كما أنّ الصين لا تتجاوز في تعاملها مع تونس حدود إبرام اتفاقيات ثنائية لتشييد منشآت عمومية، ولا تخطى ذلك إلى تقديم قروضٍ مجزيةٍ لتونس كما فعل صندوق النقد سابقا، وليست في وارد بعث مشاريع استثمارية تشغيليّة كبرى في البلاد، على خلاف أوروبا التي بعثت في تونس ما يزيد عن ثلاثة آلاف شركة توفّر أكثر من 315 ألف وظيفة، وتقدّر استثماراتها بـ49% من مجموع الاستثمارات الأجنبية بالبلاد. يضاف إلى ذلك أنّ عامل الجغرافيا والجوار الاستراتيجي يرجّحان فرضية تعزيز تونس شراكتها مع أوروبا.
ختاماً، تحتاج تونس إلى عقل سياسي رشيد، يتخفّف من هواجس الأيديولوجيا والاندفاع الانفعالي نحو الشرق أو الغرب، ويتعامل مع الأمور من منظورٍ براغماتي، واقعي، يأخذ في الاعتبار مصالح تونس على المدى البعيد. ويركّز على إعادة ترتيب الداخل، وتحقيق وفاق وطني، وبلورة منوال اقتصادي إنتاجي يعزّز فرص البلاد في الانخراط في شراكاتٍ بيْنية، تَرابُحية، مثمرة، ومتكافئة.