تونس مصابة بوباء سياسي خطير
أثبتت الأحداث أن حركة النهضة بعد الثورة المهدورة تحوّلت إلى أشبه بالعمود الفقري للحياة السياسية التونسية، إذا انتعشت انتعش البقية بمن في ذلك الأموات، وإذا ضعفت وتراجع وزنها وتشتّت شملها، لاحظ الجميع درجة الجفاف التي تحلّ بالأحزاب والشأن العام. حالة تلازم غريبة يجب البحث عن أسبابها وجذورها، وعدم الاكتفاء بتبريراتٍ سطحية وسياسوية لم تعد كافية لتفسير هذه الظاهرة الغريبة. حتى اليسار الماركسي، بمختلف أطيافه وصراعاته الداخلية، حارب الإسلاميين منذ لحظة ميلادهم، واتّخذ منهم عدوا استراتيجيا دائما، وحقّق العديد من أغراضه، لكن الوضع الراهن لهذا اليسار هو الأسوأ في تاريخه. كذلك الشأن بالنسبة للعائلة الدستورية (نسبة لحزب التجمّع الدستوري المنحل الحاكم سابقا) التي لم تفلح محاولات عبير موسي في إنقاذها وتوحيد صفوفها، بل زادتها انقساما وضعفا. أما حزب نداء تونس الذي أسّسه الباجي السبسي، وجمع معظم مكونات النخبة السياسية، فانهار كليا، وتحوّل إلى شظايا لا يجمع بينها سوى بقايا معارك بائسة.
لا يعني ذلك أن "النهضة" هي الأفضل، فالأمراض التي فتكت بها خلال نصف قرن هي نفسها تقريبا التي فتكت بغيرها، لكن ما كان متوقعا أن تكون البلاد التونسية أكثر ثراء وأكبر من أي حزب ومنظمة، يمكن أن يتعرّضا لعوامل الضعف والاندثار، وألا يؤدّي ذلك بالضرورة إلى انهيار الدولة أو تفكك المجتمع. وقد سبق أن ألغيت حركة النهضة من الخريطة الحزبية، وأقصيت من المشهد السياسي مع بداية التسعينيات، واستمرّت خارج كل المعادلات، واستمرّت رحلتها في التيه عشرين عاما إلى نهاية حكم بن علي. ومع ذلك، بقي في البلاد لاعبون آخرون لهم وزنهم وثقلهم، رغم بقاء الجنرال هو المتحكّم في كل شيء تقريبا.
اختلف المشهد اليوم تماما، فبعد نجاح النظام في خنق "النهضة"، وشلّ حركتها وتأليب الأجهزة والرأي العام ضدّها، رفع الغطاء عن اختلالٍ غير مسبوق في موازين القوى. لا أحزاب، ولا منظمات، ولا مؤسّسات، تحرّكت في اتّجاه ملء الفراغ وإعادة هندسة الأوضاع والحيلولة دون التخلي عن مكاسب الدولة والدورة الدموية للحياة السياسية.
سقط بناء الإسلام السياسي، فبدا بقية المشهد في حالة ارتباك وعجز. استوى في ذلك من بقي ضد حركة النهضة حتى الرمق الأخير، لكنه حافظ على معارضته الرئيس قيس سعيّد، أو تلك الكيانات الهشّة التي ساندت مسار 25 جويلية بتنظيماتها القديمة أو تحت عناوين جديدة، نادرا ما تجد متابعا ملمّا بأسمائها وشعاراتها، وعارفا بما يميّزها بعضها عن بعض.
أزمة الإسلام السياسي أعمق من كونها مشكلة خاصة بتشكيل حزبي أيديولوجي لم يصلح أوضاعه الداخلية ودخل في مغامرات عشوائية أنهكته عبر السنوات. لقد تداخلت عوامل متشابكة جعلت من عملية بناء الأحزاب القادرة على النمو والتطوّر والصمود شاقّة وملغمة. هل يعني ذلك أن نظرية الأحزاب فشلت تاريخيا كما يفترض الخطاب الرئاسي؟
لا أحد يعرف إلى أين تسير البلاد، ولا كيف سيكون مآلها، فالهياكل البديلة التي وضعها الرئيس لا تعمل، أو لا تدرك ما الذي تفعله. كل يوم والسلطة في شأن. لا حديث بين الناس سوى عن التعرّض للتفاصيل الصغيرة لمشاغل كبرى تتعلق بمعاناتهم اليومية. أما المعارضة، بما في ذلك حركة النهضة، فتقتات من ذلك لإقامة الحجّة على قيس سعيّد وتحميله مسؤولية الأزمة الخانقة التي تعصف بالبلاد.
ليس الحلّ في تصفية تركة الإسلام السياسي كما يستمر بعضهم في ترديد هذه الأسطوانة المجروحة، لأن جزءا مهما من ذلك قد تحقق، من دون أن يحصل تغير جوهري في الواقع وفي العقليات. تونس في حاجة إلى وضعها في إصلاحات جذرية وعميقة، وقد تحتاج أيضا إلى جيل جديد يتجاوز الجيل الحالي، ويقطع مع ممارساته السابقة والحالية. لا أحد يدري ما الذي سيحصل في المرحلة المقبلة، والأكيد أن التغييرات الجارية لا طائل من ورائها، وأن الفوضى ستستمر فترة ستطول. لكن المؤكّد أن تونس تسير في الطريق الخطأ، وما يجري ليس سوى جولة جديدة من تصفية الحساب بين نخب مريضة.