"تيك توك" وحرب العقول والقلوب
في عصر الحروب اليوم، لم تعُد الحرب تدور حول الابتكارات العسكرية والقوّة المادية والتكتيكية فحسب، بل هي أيضاً صراع مستمرّ بين العقول والقلوب والرسائل المتبادلة، والتي غالباً ما تحمل أبعاداً استراتيجية بعيدة المدى.
ما يدعو إلى هذا القول الصراع الأميركي – الصيني القديم المتجدّد حول التكنولوجيا، سواء أكانت يمكن تحويلها إلى تكنولوجيا عسكرية كالرقائق الإلكترونية أم تكنولوجيا تجارية كتطبيق "تيك توك" الذي أضحى في وقتنا الراهن عنصراً أساسياً في المنافسة بين أكبر اقتصادَيْن في العالم، خصوصاً بعد إقرار مجلس النواب الأميركي، بأغلبية 352 صوتاً مقابل 65، مشروع القانون المسمّى "قانون حماية الأميركيين من التطبيقات الخاضعة للرقابة من قبل الخصوم الأجانب" والذي يُعطي، بعد موافقة مجلس الشيوخ عليه، شركة بايت دانس الصينية المالكة لتطبيق تيك توك خيارَيْن لا ثالث لهما، وهما، إمّا أن تتخلّى الشركة عن التطبيق لشركات أميركية خلال فترة محدّدة بستة أشهر، أو حظر التطبيق على مستوى البلاد.
تظهر القراءة المتأنية لحيثيات مشروع القانون ومبرراته أنّه لا يتعلق بحماية بيانات الشعب الأميركي من الوقوع في يد الصينيين كما يدّعي المسؤولون الأميركيون، على الرغم من أهميته، وإنّما يمكن إدراج مشروع القانون هذا بكلياته في إطار الصراع الأميركي – الصيني المتجدّد حول السيطرة على العقول والأفكار، في ما يُعرف في الدوائر الرسمية الأميركية بـ"حرب العقول والقلوب"، التي يشكّل فيها العالم الافتراضي ومنصّات التواصل الاجتماعي أحد أهم ميادين هذه الحرب، حيث تتوارى في هذا العالم الافتراضي وخلف هذه المنصّات معارك حامية الوطيس، لا تقل شراسة وقوة عن المعارك العسكرية على الأرض.
تأثير وسائل الإعلام التقليدية في الرأي العام أضحى أضعف من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّاتها الكبرى
أي أنّ الحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضد تطبيق تيك توك هدفها الأساسي ليس حماية البيانات ومنع استخدامها من الصين، العدو الأول لأميركا، وإنّما هدفها الأكبر امتلاك أدوات التوجيه والهيمنة على مصادر المعرفة، والسيطرة على أكبر كم ممكن من المعلومات التي تخصّ البشرية بأسرها، للتأثير على اتجاهات الرأي العام للجمهور أو المجتمع المستهدف، لا سيّما أنّ تطبيق تيك توك يُعد من أكثر التطبيقات انتشاراً على مستوى العالم، ويحقّق رواجاً واستخداماً أكثر من التطبيقات الأميركية مثل فيسبوك وإنستغرام، وكذلك يعدّ مصدراً خصباً للمعلومات عن تفضيلات الأفراد واتجاهاتهم، سواء في الحياة اليومية العادية أو في المناسبات الخاصة، كالانتخابات، أو للتعبير عن موقفٍ معين تجاه أزمة دولية أو إقليمية أو قضية ساخنة، كالتي تتفاعل مجرياتها في غزّة.
لذا، فإنّ معركة الولايات المتحدة للسيطرة على تطبيق تيك توك يمكن إدراجها في إطار معركتها للسيطرة على الرأي العام، خصوصاً أنّ تأثير وسائل الإعلام التقليدية في الرأي العام أضحى أضعف من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّاتها الكبرى، والجميع شاهد بعد عملية طوفان الأقصى عجز وسائل الإعلام التقليدية في إقناع ملايين المشاهدين بتبنّي السرديات الرسمية الإسرائيلية والأميركية بشأن ما يجري في قطاع غزّة من قتل و تدمير وتشريد، مقابل نجاح وسائل التواصل في لعب دور كبير وخطير في تفنيد هذه السرديات، وهذا ما أكّدته الصحافية المختصة في شؤون التقنية كارا سويشر، التي قالت: "تطبيق 'تيك توك' يفوق في تأثيره قوة شبكات 'سي أن أن' و'إم إس إن بي سي' و'فوكس نيوز' مجتمعة"، لذلك فإنّ المسؤولين الأميركيين، ومن موقع إدراكهم خطورة هذه الأداة، يسعون إلى السيطرة عليها وعدم تركها في يدي أبرز خصومهم، نظراً إلى دورها الكبير والفعّال في التأثير في الرأي العام، وخصوصاً في الأحداث الكبرى، فهذا التطبيق لم يعد مجرّد وجهة للترفيه فحسب، بل أصبح مصدراً مهمّاً للأخبار يتميّز بقدرته الدعائية الكبيرة وبناء الأفكار للجمهور المتلقّي، وهذا ما ظهر بشكلٍ جليٍ خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة في الأشهر الماضية.
تهدف الحرب التي تشنّها أميركا ضد تطبيق تيك توك إلى السيطرة على أكبر كم من المعلومات التي تخصّ البشرية بأسرها
يُضاف إلى كل ذلك الجانب الاقتصادي المهم لهذه الأداة والمتمثل في الإيرادات السنوية المتنامية للتطبيق في الولايات المتحدة، والتي بلغت في عام 2023 نحو 16 مليار دولار، بزيادة قدرها 40% عن سنة 2022، وهذه الإيرادات قابلة للزيادة كل عام، لا سيّما أنّ تطبيق تيك توك الذي يندرج في فئة تطبيقات الترفيه المتاحة لكل الأعمار يبلغ عدد مستخدميه في الولايات المتحدة 170 مليوناً، نحو 62% منهم تحت سنّ الثلاثين، أي من فئة الشباب والفتيان الذين يُطلق عليهم جيل "ألفا" الذي يلي الجيل "زد" المولودين في العقدين الماضيين، وهما العقدان الأولان في القرن الحادي والعشرين. ويعدّ هذا الجيل الأكثر ارتباطاً بتطبيقات الترفيه ووسائل التواصل الاجتماعي، ويعدّها أساسية في حياته اليومية والمهنية معاً، وبالتالي، لا يمكن الاستغناء عنها بسهولة.
في المحصلة، يمكن القول إنّ الحرب التي تشنّها الولايات المتحدة ضد تطبيق تيك توك ذي المنشأ الصيني تعبّر عن خليط من الأبعاد والمتغيّرات التي يتشابك فيها السياسي والاقتصادي والأمني والثقافي، بحيث أصبحت هذه الحرب موضوعاً يخصّ استراتيجيات القوى الكبرى التي تحتكر صنع مثل تلك التطبيقات، وتتنافس فيما بينها للسيطرة على أكبر كمٍّ ممكنٍ من المعلومات التي تخصّ البشرية، ومن ثم القدرة على صنع اتجاهاتٍ معينةٍ تخدم تلك الاستراتيجيات، وتحاصر الاستراتيجيات المنافسة.