ثقافة الكمامة
عند بداية فيروس كورونا، ومكوثه فوق المعتاد بيننا، وجعلنا نرتدي الكمامة فترات طويلة، ولا نخلعها سوى في البيت، أو عندما نكون وحدنا، ما تسبّب لنا بإرباكات كثيرة، يُحكى أن مُخبرا شريفا، والشريف بين المخبرين قليل، قدّم لرؤسائه اقتراحا بإنتاج كمامة شفّافة، وإلزام الناس بارتدائها، وعندما سُئل عن سبب هذا الطلب، قال:
- لكي نتمكّن من معرفة الشخص الذي لا يقول "تفووو"، عندما يدور الحديث "عن فوق"، لكي لا نظلمه.
مخبر آخر خبيث ارتدى كمامة، ولأن هذه الفصيلة من الثدييات لا تشعر بالخوف، لا من كورونا ولا من غيره، استهجن رفاقه عليه ذلك، فبين لهم السبب، قائلا إن فلانا يرتدي كمامة. .. ولأن فلانا ذلك من الأشخاص المناهضين للسلطة، غضب رئيسه، وقال له:
- أليس لدينا رفاق تقتدي بهم بدلا من الاقتداء بخنزير من المعارضة؟
فوضح المخبر لرئيسه قائلا: أبدا، يا سيدي، أنا أفعل ذلك فقط لأنه يشبهني.
وعندما استغرب رئيسه المبرّر، أوضح له المخبر: كثيرون، يا سيدي، يخلطون بيني وبينه عندما نكون في الكمامة، وبدلا مني يبصقون في وجهه.
ثم قهقه المخبر وأردف: "خليه يشيل كتف عننا".
وبالنسبة لكثيرين، أسوأ ما في الكمامة أنها تخفي انفعالات الشخص المقابل لك، فإن كنت في اجتماع عمل، وكنت تتحدّث عن مشروعٍ تعمل عليه، فإنك عادة ما تتابع ملامح الوجوه، لترى ردّات الفعل، هل هناك استحسانٌ لما تقوله أم عكس ذلك؟ أما في اجتماعات الكمامات الآن، فلن ترى سوى العيون الزجاجية التي لن تقدم لك أي انطباع تعتمد عليه، تضفي على نبرتك حرارة أكثر، فلا ترى سوى تلك العيون الزجاجية التي تجعلك تفقد ثقتك بنفسك، وفقط لكي لا يصيبك ما أصاب الكسعي، تتابع الحديث حتى نهايته، فما أدراك، ربما تكون ملامحهم التي تخفيها الكمامات متفاعلةً معك إيجابيا. ومن هنا تضم صوتك إلى صوت المخبر الذي يطالب بكمامات شفافة، تبقي على التفاعل مكشوفا.
قصص كثيرة أخرى حبكت حول الكمامة، وتم إنتاج فيديوهات وتقارير صحافية كثيرة، ذلك أن الكمامة تحولت، خلال السنتين المنصرمتين، إلى جزء من حياتنا، لا يخلعها الناس إلا عندما يكونون في المكان بمفردهم، أو في البيت بين أفراد الأسرة. أما في التجمعات والأماكن العامة فهم ملزمون بارتدائها بإرادتهم، خوفا من الإصابة أو بقوة القانون، في مسعى من الحكومات إلى الحد من انتشار الفيروس. واذا استمرّت هذه الجائحة فترة طويلة، ستكون سببا لظهور قطعة جديدة تضاف إلى لباس الإنسان، إضافة إلى الجوارب وباقي الألبسة الداخلية، فمن المعروف أن الإنسان ولد عاريا، ثم غطى وسطه لأسباب مختلفة، لا نستطيع الجزم بها، ربما لأن تلك المنطقة من جسمه حسّاسة، وهي الأكثر عرضةً للتأذّي، وربما لأنها كانت تعيقه في أثناء ركضه خلف الحيوانات لصيدها، وربما مثل حي بن يقظان، تشبها ببقية الحيوانات التي وهبها الله وبرا أو ذنبا كانت تغطي فيه عورتها، فقام هو بتغطية وسطه بجناح طائر أو بالعشب. ثم تابعت الطبيعة تغليف الإنسان، فجعلته يرتدي قطعا جديدة من اللباس، تستر بقية أجزاء جسده، اتقاء للبرد أو الحرّ أو غيرهما. وساعدها في هذا المجتمع بتقاليده والأديان بتعاليمها. والملفت أن كل قطعة كان يضيفها الإنسان إلى لباسه لم تكن، في البداية، من أجل السترة، ولكنها كانت تتحول إلى ستر، وأصبح من المعيب خلعها، فأصبح الوسط منطقة عسكرية مغلقة، والصدر كذلك، والشعر في حالات المرأة في عدد من المجتمعات. والآن، تتحوّل الكمامة إلى شبه لباس، والشخص الذي لا يرتدي كمامة يصبح محط أنظار الناس، ويمنع من دخول أماكن حيوية كثيرة. وبناء على تطورات الفيروس الذي يجدّد نفسه كل فترة، يمكن القول أو التكهن إن هذه الأقنعة ستكمّمنا طويلا، فهل ستتحوّل الكمامة إلى قطعةٍ لن يمكننا مع الزمن خلعها؟ وهل سيتم اعتبار الرجل الذي يكشف أنفه من تحت الكمامة شخصا منحطا بلا أخلاق، أو سقوط الكمامة عن وجه المرأة فضيحة؟ إذا طال مكوث الفيروس اللعين ربما يحدث ذلك.