ثلاثون عاماً والفلسطينيون في مصيدة أوسلو
هل كان اتفاق إعلان المبادئ بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل الذي اشتهر باتفاق أوسلو فخّاً استُدرجت إليه القيادة الفلسطينية، ومعها عموم الحركة الوطنية، فذهبت إليه معصوبة العينين، وغافلةً عما ينتظرها؟ أم كان خياراً سياسياً وطبقياً واجتماعياً اتخذته القيادة بملء إرادتها، ولكي تحافظ على بقائها في مشهد السياسة الفلسطينية والعربية، بعد أن همّشتها الأحداث، وبخاصة نتائج حرب الخليج التي تلت غزو العراق الكويت، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي الحليف التاريخي لحركات التحرّر ومنها الثورة الفلسطينية. أم أنّ الأمر أبسط من ذلك، ولا يعدو كونه مجرّد مقامرة اندفع إليها الرئيس الراحل ياسر عرفات، وهو الذي كان قادراً على تحريك خيوط السياسة الإقليمية من معقله في "جمهورية الفاكهاني" فكيف إذا استقرّ في فلسطين مع عشرات آلاف المسلحين؟
يمكن أن يقال الكثير عن كل بند أو تفصيل من اتفاق أوسلو ومثالبه وثغراته القاتلة، وسياقه الزمني، لكنّ الجدل الواقعي والعلمي التاريخي يعتمد في العادة معايير صارمة لا عواطف فيها: النتائج، وهي هنا، في حالة اتفاق أوسلو، لا تحتمل التأويل والاختلاف، فقد ابتعد حلم الدولة الفلسطينية وأزيح سنوات إلى الأمام إن لم يكن قد شطب تماماً من التداول. وتبخّرت أوهام تحويل غزّة إلى سنغافورة الشرق الأوسط، وتحوّل هذا القطاع الفلسطيني المنكوب إلى أكبر سجن في العالم، مع غياب أبسط الشروط اللائقة بالحياة الإنسانية من مياه شرب وموارد وخدمات وحرية حركة وتبادل مع العالم الخارجي. وتضاعف عدد المستوطنين في الضفة المحتلة نحو خمس مرات (من 160 ألفاً إلى نحو 800 ألف)، ويتواصل عزل القدس عن محيطها الفلسطيني وتهويدها وتغيير طابعها العربي الإسلامي المسيحي، وهويتها، بما في ذلك تغيير الوضع التاريخي القائم بالنسبة للمقدّسات والمسجد الأقصى، والموروث عن الدولة العثمانية واتفاقياتها الدولية في منتصف القرن التاسع عشر. وتراجعت مكانة قضية اللاجئين مع تأجيل النظر فيها، وبعد ذلك في موجات الهجرة المتلاحقة من دول جوار فلسطين إلى أصقاع العالم وتهميش مشاركتهم في القرار الوطني الفلسطيني ومؤسّسات السلطة ومنظمة التحرير، وصولاً إلى خطط ترامب ونتنياهو لإعادة تعريف اللاجئ وتصفية قضيتهم على قاعدة توطينهم حيثما هم أو نقلهم إلى بلد ثالث. ثم في وجود "سلطة فلسطينية" تقمع شعبها والمقاومة، وتتعايش مع واقع الاحتلال فتصمت، أو تمتنع عن فعل أي شيء إزاء ممارسات الاحتلال، وذلك كله تحت شعار الحفاظ على المشروع الوطني.
كانت عيوب اتفاق أوسلو واضحة ومرئية منذ لحظة الاتفاق، حتى إن أول من احتج عليه علناً كانوا أعضاء الوفد الفلسطيني الرسمي إلى مفاوضات واشنطن، وأبرزهم حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي وصائب عريقات. فالاتفاق أجّل القضايا الجوهرية الكبرى، والقدس واللاجئين والاستيطان والحدود ومصير الأراضي الفلسطينية النهائي والمياه، إلى مفاوضات الحل الدائم، التي كان مقدّراً لها أن تبدأ مع نهاية العام الثالث لتطبيق الاتفاق، لكنها بدأت وانفجرت ولم تُفْضِ إلى شيء. واستغلت إسرائيل كلّ عيوب الاتفاقيات والألغام التي زرعتها فيها لمواصلة فرض الوقائع المادية، ومن ثَمّ ملامح الحل النهائي، على أرض الواقع ومن خلال إجراءات أحادية الجانب ودونما الحاجة إلى أي نوع من المفاوضات مهما كانت شكلية. وهكذا تحوّلت قيود اتفاق أوسلو إلى شبكة هائلة تأسر الفلسطينيين في حبائلها، وتتحكّم في كلّ تفاصيل حياتهم. وها هي السلطة بعد ثلاثين عاماً، ومعها داعمو التسوية، والعالم بأسره يبحثون عن بصيص أمل مهما كان خافتاً لاستئناف مفاوضات السلام وإنعاش حلم الفلسطينيين في مستقبل أفضل.
ما زالت السلطة الفلسطينية تُعرّف نفسها باعتبارها مشروعاً وطنياً ونواة للدولة الفلسطينية العتيدة، لكنّ الأمور على الأرض تجري في اتجاهٍ مغاير تماماً
ربط اتفاق أوسلو تفاصيل حياة الفلسطينيين اليومية بإسرائيل، شرط موافقتها على كلّ صغيرة وكبيرة، فإسرائيل، وبحكم سيطرتها على المعابر والحدود والأرض والأجواء، هي التي تجبي الضرائب على الواردات الفلسطينية، ثم تحوّلها في ما بات يعرف باسم "المقاصّة" لتصبح هذه الحوالة الشهرية المصدر الرئيس لميزانية السلطة الفلسطينية، ومنها تُدفع رواتب موظفي السلطة ونفقاتها التشغيلية. كما تسيطر إسرائيل سيطرة مطلقة على المياه والكهرباء والمواصلات والاتصالات وحركة الصادرات والواردات وانتقال الأفراد والسلع، حتى بين المناطق الفلسطينية المختلفة، وكذلك على الطرق التي تصل بين المحافظات والمدن والقرى الفلسطينية، وكذلك على المجال الكهرومغناطيسي، وشبكة الإنترنت، وعلى تحرّكات الشرطة والأجهزة الأمنية بين أي مدينةٍ وقراها، فضلاً عن تحركات القيادة الفلسطينية، إلى جانب استمرار تحكم إسرائيل المطلق في سجلّ الأراضي (على حساسية موضوع الأرض) وسجلّ السكان، بحيث لا تستطيع السلطة الفلسطينية تسجيل أي مولود جديد من دون الموافقة الإسرائيلية المسبقة على ذلك، بل يمكن لإسرائيل أن تبدي رأيها في مناهج التعليم الفلسطينية، وما إذا كانت تنطوي على التحريض وخطابات الكراهية و"معاداة السامية".
من أبرز عيوب اتفاق أوسلو تهميشه بعض أشكال النضال الوطني، بخاصة المقاومة بكلّ أشكالها، والرهان العلني (المنصوص عليه في الاتفاقيات وتصريحات المسؤولين المتكرّرة) على أنّ المفاوضات وحدها هي أسلوب تحصيل المطالب والحقوق. صحيحٌ أنّ الشعب الفلسطيني، بأجياله الناشئة وقوى المقاومة، لم يستكن لهذه الحقيقة، ولم يسلّم بها يوماً، لكنّ هذا الأمر ظلّ مصدراً لتوتراتٍ وإشكالات مستمرّة، وكان من أهم أسباب الانقسام. كما أنّ من الآثار الفادحة لأوسلو، أنه ساهم في فصم ارتباط النظام العربي الرسمي بالقضية الفلسطينية، وتوالت بعده عمليات التطبيع العلنية والسرّية تحت ذريعة أنّ الفلسطينيين "أصحاب الشأن" هم أول من طبّع، وبات المرشّحون للتطبيع يبحثون في شروطهم ومصالحهم الخاصة لإنجاز هذا التطبيع، بمعزلٍ عن قرارات جامعة الدول العربية، وعن شروط حلّ القضية الفلسطينية التي نصّت عليها مبادرة السلام العربية. وتكفي الإشارة، في هذا السياق، إلى واحدة من أبرز ثمرات التطبيع المرّة، فقد أظهرت إحصائيات العام 2022 أنّ إسرائيل صدّرت أسلحة إلى مختلف الدول بأكثر من 12.5 مليار دولار، ربعها كان من نصيب الدول العربية الشريكة في الاتفاقات الإبراهيمية بقيمة صافيةٍ بلغت 2.9 مليار دولار بحسب بيانات وزارة الدفاع الإسرائيلية.
تواصل إسرائيل مشروعها لحسم الصراع بالقوة، وإخضاع الفلسطينيين وإحكام تبعيتهم لنظامها واقتصادها وأولوياتها السياسية
ما زالت السلطة الفلسطينية تُعرّف نفسها باعتبارها مشروعاً وطنياً ونواة للدولة الفلسطينية العتيدة، لكنّ الأمور على الأرض تجري في اتجاهٍ مغاير تماماً، فإسرائيل تريد اختزال دور السلطة إلى وظائف ثلاث لا مزيد عليها، وهي التنسيق الأمني أولاً، وإعفاء إسرائيل من عبء التعامل مع ملايين الفلسطينيين وشؤون حياتهم المختلفة، حتى لا توصَم بتهمة "الأبارتهايد" الدامغة، ثم إيهام العالم بأنّ ثمّة مسيرة ما للتسوية السياسية والمفاوضات، صحيح أنّها متعثّرة وجامدة لكنّها قابلة للإحياء، ويمكن استئنافها بتسويات ومبادرات صغيرة، أو إجراءات لتحسين الثقة. حتى إنّ نبيل عمرو، وهو قيادي فلسطيني بارز، وشغل مواقع وزارية عدة، وكان مقرّباً جداً من كلّ من الرئيسين ياسر عرفات ومحمود عبّاس، قال أخيراً: "لم يبقَ من اتفاق أوسلو إلّا التنسيق الأمني"!
لم يكن كلّ هذا المسار الطويل مجرّد اجتهادات خاطئة أو أوهاما وسوء تقدير، فقد تراكمت مصالح وامتيازات ملموسة لشريحة ضيّقة من تحالف البيروقراطية الفلسطينية (قيادات منظمة التحرير ثم السلطة) مع رأس المال الكومبرادوري، ونشأ تزاوج بين النفوذ السياسي والسلطوي مع النشاط المالي والاستثماري والوكالات التجارية الحصرية، وباتت هذه المصالح تمنع القيادة من اعتماد الخيارات البديلة، وأبرزها خيار الشراكة الوطنية، وبرنامج قواسم مشتركة. ووسط هذه المعضلة، وجدت السلطة الفلسطينية حلّاً لأزمتها من خلال التكيُّف مع هذا الواقع عمليا، والاكتفاء بشتمه لفظيا: فهي تواصل انتقاد إسرائيل واتهامها والحديث اليومي التفصيلي عن وحشيتها واحتلالها وعن نظام الفصل والتمييز العنصري الذي تبنيه، لكنها في المقابل تمتنع عن القيام بأي خطوة يمكن لها أن تغير هذا المسار، بل تحرص على منع أي قوة ناشئة (فصيلا أو تشكيلا ميدانيا) من العمل لتغيير هذه المعادلة. ووسط ذلك كله تواصل إسرائيل مشروعها لحسم الصراع بالقوة، وإخضاع الفلسطينيين وإحكام تبعيّتهم لنظامها واقتصادها وأولوياتها السياسية، وكأنّ الفلسطينيين باتوا مجرّد شأن داخلي إسرائيلي، وفي الغالب، يجري تصويره شأناً إشكالياً ديمغرافياً أو "إرهابياً".