ثورة سورية برأسٍ مقطوع
دعونا نبسُط الأمر كالتالي: يفتقد السوريون اليوم، حقيقة، هذه اللوحة الوطنية المبهرة: "شارك آلاف الفلسطينيين في القدس الشرقية في تشييع الصحافية شيرين أبو عاقلة، التي قُتلت برصاصة في الرأس خلال تغطيتها عملية إسرائيلية في جنين بالضفة الغربية المحتلة. وباستشهادها، وحّدت شيرين كلّ الناس عندما التفُّوا حولها كرمزٍ وطني، ومن دون معرفة حتى بديانتها التي فوجئ بها الجميع (تقريباً) عندما أقام المسلمون صلاة الغائب على روحها في فناء المستشفى الفرنسي بالقدس، بينما اتجه جثمانها إلى كنيسة الروم الكاثوليك لإقامة القدّاس على روحها". في المقابل، شهدت سورية، ومنذ أكثر من عشر سنوات، أحداثاً ربما تُغني عن حياة بلادٍ بأكملها، ظهرت خلالها صورٌ لجثثٍ ودماء ومعتقلين وأشلاء، كذلك اختفاء قرى وبلدات كاملة عن وجه الأرض، لكنها بقيت مناظر جامدة مرّت كفيلم صامت لا قيمة له فنياً، لم يتحد الشعب السوري يوماً. خذ مثالاً..، بينما سبّبت الحرائق التي طاولت مساحات هائلة من البلاد، لشريحة من السوريين، وعلى اختلاف مواقفهم الإنسانية والسياسية، غضباً وحزناً، وشعوراً بالعجز، شكّلت لسوريين آخرين فرصةً للشماتة بالمتضرّرين، على اعتبار أن ساكنِي تلك المناطق من موالِي النظام السوري. سبقتها دعوات سامة لثلّةٍ من الموالين المتطرّفين للنظام، طالبوا، وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بقصف المدن الخارجة عن السيطرة. هكذا علتِ الأصواتُ الشامتة بمصير" شركاء وطن" كانوا، فرضياً، يتشاركون "اللوحة الفسيفسائية السورية" ذائعة الصيت. وعليه، مَنْ مِنَ السوريين لم يصرُخ بصوت جهوري، خوفاً أو تملقاً: "الوطن، بمجمل طوائفه، لوحة فسيفسائية متناغمة"؟. بينما السؤال الذي يُطرح بقوّة هنا: هل كان السوري يدرك معنى هذا الشعار الذي دسّ السمّ في الدسم، بينما يصحّ الجزم الآن، وبعدما تهدّم جدار الخوف الثقيل الأصم، أنّ شعباً بأكمله عُلّب وأُطّر في هذا اللوحة الزائفة، وتمّت عملية ناجحة لغسل الدماغ الوطني، عبر الشعارات والأغاني والرموز المسيّسة والمؤدلجة التي ساهمت في تمرير رسائل عقائدية مبسترة خالية الوفاض الوطني والأخلاقي.
لم يكن للشخصيات الكاريزمية الوطنية أيّ دور جوهري وفاعلٍ في الثورة السورية
غريبة "ثقافة الشماتة" المتبادلة وسط القصف والحرب والدم في مجتمعٍ متحضّر عُرف بتنوّعه العرقي والمذهبي، هي التي تحمل دلالاتٍ خطيرة بشأن المرحلة التي وصل إليها انقسام الشعب السوري، بعدما بات لكلّ طرفٍ من أطراف النزاع علم وحدود جغرافية وتشكيلات عسكرية. ولا شكّ في أنّ التصوّر الزائف حول وحدة السوريين الذي زرعه النظام الحاكم أسهم بتعزيز انقسامٍ قائم على مظلومياتٍ متداخلةٍ بالأساس، والذي لم يتوقف عند مرحلة الشماتة العامة، بل امتدّ إلى نظرة كلّ طرف أنه في بلد منفصل، واعتبار الآخر عدوّاً له بشكل كامل، بالتزامن مع طول أمد الصراع وسقوط مزيد من الضحايا. على صعيد موازٍ، لم يكن مُتصوّراً أن يتخلص السوريون بسهولة من بعض الموروثات الأخلاقية والأمراض الاجتماعية التي اصطبغوا بها عقب نصف قرن من حكم حزب البعث، رضعوا خلالها كل ما هو ذميم ودميم. ولكن ما لم يكن مُتصوّراً، على الإطلاق، ألا يفقهوا أنّ المعنى الحقيقي للثورات ليس إسقاط حاكم مستبدّ جائر فقط، بل هو اقتلاع جذري لجميع موروثات وملامح حقبته التي كانت سبباً مباشراً فيما وصلوا إليه من جهلٍ وتخلف وتفكك وهوان. ما تقدّم يشير إلى أنّ عبادة الفرد طغت على تقديس الوطن السوري، وتواءمت اللغة اليومية مع احتياجات استدامة "الأبدية الأسدية" التي جرى التعبير عنها أيّما تعبير من خلال عنف مواجهات الحراك السلمي عام 2011.
بات لكلّ طرفٍ من أطراف النزاع علم وحدود جغرافية وتشكيلات عسكرية
من هذا المنطلق، بُنيت فرضية تقوم على أنّ للنظام هيكلية خطابية ممنهجة مسؤولة عن إنتاج "لغةٍ سامة" للسوريين، وبمتابعة المنتجات (الفكرية واللغوية) يباغتنا سؤال آخر: من أيّ حاضنةٍ اجتماعيةٍ خرجت مثل هذه الشعارات والرموز التي ساعدت لاحقاً على فهم العلاقة الوثيقة بين ترويض القطيع واستهلاكه من السوق السياسي الحاكم، الذي ألغى الحيز السوري العام، وسوّق ثقافة "التعلّق الوثني" بالطائفة أو الفصيل أو الجماعة أو حتّى التيار السياسي؟ لذا لم يكن من المستهجن قط أن نشهد تقلباتٍ مرعبة لدى مكوّنات ثورية كثيرة، ما بين شيطنة الخصم عند الاختلاف وخلع الطهر الملائكي عليه عند التوافق والائتلاف. وذلك أمرٌ بدهي، بطبيعة الحال، فالنظام السوري ضيّقَ مساحة الخير في روح الشعب المقهور والمسحوق، لشدّة ما أذاقه من ويلات الظلم والعسف مصحوبة بلا مبالاة مجتمعية وخذلان عام. كما نجح في تدمير عنصرين رئيسيين في المجتمع السوري الذي يرغب بتدجينه، وسلْبِ عناصر قوته ومقاومته. هذان العنصران هما: "الانتماء والأخلاق"، فمن خلال محاربة الأول وحصره بطقوس شكلية من الشعارات المطاطة والرموز الزائفة، قتل المستبد في نفوس "المستعبَدِين" جميع عناصر المقاومة، ورفض الهوان والاستكانة، وعبر تشويه الثاني عدِمَ عوامل الثقة بين مكونات شعبه، وبذر مكانها الشقاق والتنازع. تلك الغفلة عن المعنى الحقيقي للأوطان حصد السوريون ثمارها في ثورتهم، غير أنّ الزخم والعنفوان اللذيْن رافقا تفجّر الانتفاضة، وتنسّم عبق الحرية للمرّة الأولى، ووجود عدو مشترك يتهدّد الجميع ساعد على خمول تلك الموروثات وسباتها إلى حين. ومع طول أمد الحرب وشدّة المحن التي نزلت بالسوريين، وشعورهم بالعجز وحجم الخذلان، أعاد تنشيط هذه الموروثات، بل ودفع بها إلى مراحل متقدّمة من الاستفحال.
غريبة "ثقافة الشماتة" المتبادلة وسط القصف والحرب والدم في مجتمعٍ متحضّر عُرف بتنوّعه العرقي والمذهبي
الثورة السورية كانت ثورة بلا رأس، ولم يكن للشخصيات الكاريزمية الوطنية أيّ دور جوهري وفاعلٍ فيها. كانت أيقوناتها الأطفال الذين تعرّضوا للتعذيب والقتل، بالإضافة إلى المنشدين في المظاهرات الذين اقتُلعت حناجرهم، والناشطات والناشطين الذين تعرّضوا لأوضاع قاسية وصلت إلى حدّ التغييب والتصفية. زاد الطين بلّة، ليس فقط ما كرّسه الوقت من عاداتٍ ومشاعر ومصالح جديدة غير متفق عليها في "الإطار الوطني"، بل أيضاً لأنّ قادة رأيٍ كثيرين كان ليجتمع حولهم شعب بأكمله، باعتبارهم أهم القوى التي تسعى إلى التغيير المجتمعي، وكشف تناقضاته وأوهامه، عبر نقد النظام وكشف همجيته، والذين عاشوا القمع المشترك، وتطلعوا معاً إلى مستقبل كريم، هم الآن خارج التأثير المُرتجى، بعدما حلّ أمراء الحرب وتجّارها على طرفي خطوط الصدع الوطني. قادة خطيرون يتناغم معهم مثقفون ومفكرون وفنانون نجوم..، يصفهم عالم الاجتماع الفرنسي، بيير بورديو، بجملةٍ مقتضبة، لكن فسيحة المعاني: "فكر آلي ولغة ميكانيكية باعتبارها نتاجات الجهاز التي تهدف إلى الحفاظ على الجهاز فحسب".
ذهب الأميركي، توماس سويل، إلى أبعد من ذلك، عبر التأكيد أننا نادراً ما نجد "دكتاتوراً يقوم بالقتل الجماعي من دون مؤيديه من المثقفين". مع هذا، ثمّة أمل بسيط في نهاية النفق السوري المظلم، بمعنى وجود مرحلة انتقالية سياسية تمهد لدولة قانون ومواطنة، حيث السوريون، جميعاً، متّحدون ومتساوون بالحقوق والواجبات. يشعر من فقد أهله بهذه العدالة الاجتماعية، حتى لا يكون هناك مجال للثأر أو الشماتة. هكذا، فقط، يتبلور الوعي بأنّ الدفاع عن سلطة لا تتمتع بأية قيمة أخلاقية، هو "سقوط وطني" بامتياز، قبل أن يكون خطأ معرفياً وخطيئة عملية، ويترسّخ الإيمان المطلق بأنّ المستبد تمكّن من التلاعب باللوحة الفسيفسائية السورية التي زُيّنت بإطارٍ صدئ، لم يناسب سوى زيّ الدكتاتورية الحاكمة.