ثورة في إيران ضد الثورة
كان إكليل من الغار يتوّج رأس المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، يجعله يعتقد، ونحن معه، أن الشعب الإيراني لن يثور على نظامه. لمليون سبب وسبب، أهمها أن الإيرانيين لن يقوموا بثورة بعد الثورة الإسلامية، فهذه الأخيرة نهائية، تنتظر المهدي، توقف الزمان، قبضتها الداخلية حديدية، بعواطفها الدينية المسيَّسة، وحروبها مع جوارها ومع الأبعد منه.
ولكن الثورة حاصلة الآن، وهي على الدرجة نفسها من جذرية النظام. من الواضح بأعينها أن نظامها لا يحتمل تعديلاً، أو إصلاحاً من هنا، أو ترتيباً من هناك. لا يجدُر به غير السقوط النهائي. لأن حيثيات قيامه كلها سماوية. وأي تغيير في زاوية من زواياه هو خروج شريعته الدينية، أساس شرعيته. يحقّ لولي الأمور أن يقتل المطالِبين بهذا التغيير، كما يُقتل الغزاة الكَفَرة، فتسهل عليه بذلك استعادة لازِمته الشهيرة، من أن هذه الثورة "مؤامرة أميركية صهيونية"، "تدخّل غربي".. إلخ.
والحال أن الثورة الإيرانية تمتلك كل مقومات العراقة العضوية. إنها منْدمجة بتاريخها، تغْرف منه طقوسها وأدواتها وطرقها للتعبير. لها ذاكرة سحيقة في القِدَم: النار التي أشعلها المتظاهرون تعود إلى طقوس الطهارة في الديانة الزردشتية الفارسية السابقة للإسلام. قصّ الشعر يستعيد ملحمة الشاهنامة الفارسية، عمرها ألف عام، كتبها الفردوسي، وفيها يقطّع الشعر بشدة تعبيراً عن الفجيعة. القوة الحركية للنساء تستلهم نضالات الحركة النسائية الإيرانية التي انطلقت في بداية القرن الماضي. وتحيي معها إصلاحات الشاه السابقة على الثورة الإسلامية (عائلة، تعليم، اختلاط بين الجنسين). التظاهر ضد الحجاب يعود إلى السنة الأولى من قيام الجمهورية الإسلامية، وخَفُت السجال العلني ضده في مرحلة، كانت الإيرانيات ينْتقمن منه بتمْييعه تدريجياً. وكان أول المظاهر العلنية لخلعه، منذ خمس سنوات، تلك الصبية فيدا موحّد، الواقفة على برميل مرتفع، تُمسك حجابها بطرف عصا، وتلوّح به مثل العلَم.
العمامات المتطايرة هي بدورها من تقاليد الثورة الإسلامية نفسها، فأثناء انطلاقتها الأولى كان شبابها يطيّرون عمامات الملالي الموالين للشاه
العمامات المتطايرة هي بدورها من تقاليد الثورة الإسلامية نفسها، فأثناء انطلاقتها الأولى كان شبابها يطيّرون عمامات الملالي الموالين للشاه. عندما استنكرها المسؤولون بصفتها "إهانة للدين"، ردّ عليهم الشباب بأن كبار المسؤولين الحاليين كانوا يطيّرون عمامات من لم يعجبهم من الملالي. والثورة أحيت أيضاً طقوساً أخرى للثورة الإسلامية، مثل إضراب البازار، والجنازات الضخمة حداداً على شهدائها.
يؤازر هذا كله شباب متعوْلم، أُطلقت على حياته ثنائية المجال العام/ المجال الافتراضي (بدل المجال العام/ الخاص)، لوصف حالة اندماجه بالعالم خارج إطار السلطة، أي "العام"، عبر إتقانه تكنولوجيات خرق العزلة الإنترْنيتية المفروضة عليه، واكتشافه صور ومفاهيم وحالات ومسالك لشباب العالم وشاباته. ودياسبورا إيرانية، تضاعَفَ حجمها طوال سنوات حكم الملالي. دياسبورا على صلة بالداخل، معها أحزاب وشخصيات إيرانية: الحزب الشيوعي الإيراني، مجاهدي خلق، الأمير رضا بهلوي، وريث العرش. ولجميعهم مجموعاتهم في الداخل، يقولون إنهم يقودونها.
لم تَعُد البروباغندا الإيرانية مقْنعة، خصوصاً للآذان الصاغية
الثورة ضد نظام الملالي سوف تنجح، حتى لو أخفقت. لم تَعُد البروباغندا الإيرانية مقْنعة، خصوصاً للآذان الصاغية. كانت تقول، منذ استيلاء الملالي على السلطة، إنها بصفتها ثورة من واجبها تصديرها إلى الخارج. والأميركيون ليسوا أفضل منها، هم الذين يصدّرون الديموقراطية بالسيف والدولار. وبهذه الذريعة، زرعت إيران مليشياتها، وكلّفت قاسم سليماني بإدارة عملياتها الحربية "الإقليمية"، قتلت من قتلت من الشعب السوري، وأقعدت الشعب اللبناني بقوة السلاح، وخرَّبت العراق واليمن، وزرعت جزرها المحصَّنة في عواصم العالم... الآن ماذا تقول لنا، وقد انتقلت بندقيتها لتصوبها على شعبها، ولا تخجل في قتله، وفي التبجّح علناً بأنها غاشمة.
والسؤال يُطرح على منطقتنا، فإيران بعد ثورتها الإسلامية عزَّزت الفكرة السياسية الدينية التي كانت آخذةً بالانتشار في نهاية العهد العروبي الناصري. من دون أن تكون على تطابق مذهبي معها، أعطت فرصةً لأحزاب الإسلام السياسي السني بالنمو، "الإخوان المسلمون" من ضمنهم. والآن، هذه الأحزاب في حالة من الانكماش، أو الملاحقة، أو السجن، أو الثلاثة معاً. حاول "الإخوان" أن يحكموا، كما في المغرب وتونس ومصر، وحاول بعضهم الثاني أخذ النَفَس، كما في سورية، وبعض أخير محكوم بالمذابح التي أشعلها كما في الجزائر، أو ليبيا.. لكنهم فشلوا. ولا يبقَى في الميدان إلا الحركة السلفية، يمكن تطويعها كما يفعل الجولاني في إدلب (سورية)، أو تهجينها وتشغيلها لصالح سلطة واحدة عليا، عسكرية كما في مصر، أو سلطة "مدنية" كما يحصل الآن مع بشار الأسد. وفي جميع الأحوال، سيكون فشل الثورة الإسلامية شبيهاً بفشل المشروع العروبي الناصري.
ينهار النظام الإيراني الآن معنوياً، إذ لا يحمي نفسه إلا بقتل الإيرانيين. وقد يدوم هذا الانهيار طويلاً حتى تدرك الثورة مرماها الأخير
ما سيُضعف حجة مليشياتها أيضاً، ولو بعد حين، عندما يكون مموِّلكَ وصاحب قراركَ قد دخلت في حسابه عملية قتل ثورة مندلعة ضده، سوف تختلف الاستراتيجية وسوف تصوّب نحو أولويتها الجديدة. هذا مغزى تصريح علي خامنئي أخيراً، الذي دعا إلى "تلازم" المسار الإيراني الداخلي مع مسار المليشيات المتفرّعة عنه. ربما يحتاج إليها لتساهم في مقْتَلته، فبدل أن تكون نيرانها مشتعلة من أجل فلسطين، ستدخل في الحقيقة العارية، وتقتل الإيرانيين أنفسهم، داخل إيران وخارجها، وتخفّف عنها، في طريقها، جبهتها الجديدة التي أقحمت نفسها بها ضد الشعب الأوكراني. وقبل بلوغ هذه النقطة، ستقتل المليشيات الإيرانية الشعب الإيراني إعلامياً أيضاً. والإعلام الذي تملكه الممانعة صاحب أجنْدات ولا أوضح...
ينهار النظام الإيراني الآن معنوياً، إذ لا يحمي نفسه إلا بقتل الإيرانيين. وقد يدوم هذا الانهيار طويلاً حتى تدرك الثورة مرماها الأخير، أي سقوطه الجسدي. والعلاقة التي أقامها هذا النظام مع مليشياته "الإقليمية"، الشبيهة بعلاقة أحزاب الأممية الشيوعية (الكومنْترن) بالاتحاد السوفييتي، لا بل الأعمق منها. على أي وجهٍ سيكون مصيرها عندما يهْوي هذا النظام كما هوَى النظام السوفييتي؟ وخصوصاً عندما يكون مشاركاً في هذا السقوط؟ ماذا يفعل بسلاحه؟ بعقيدته؟ بماذا يهدّد خصومه ويتودّد لبيئته؟
وبخصوص لبنان بالذات: هل يدوم الفراغ الرئاسي بدوام هذا الانهيار؟ أي عدة سنوات؟ عقدٌ ربما؟