جار الله عمر .. سيرة ومسيرة
ككل اليمنيين، عاش المناضل والمثقف اليمني جار الله عمر الجزء الأول من حياته في رحاب الريف اليمني، الغارق فقرا وجهلا ومرضا. وشكلت لديه الثلاثية القاتلة منطلقا احتجاجيا رافضا لهذا الواقع البائس الذي يرزح تحته كل اليمنيين، لتشكل بعد ذلك منظومة معادية ونقيضة لمنهجية جار الله عمر، السياسية والفكرية والثقافية والنضالية، ودافعا مبكّرا له إلى التحرّر، باعتبار أن وجود مثل هذه الظواهر في مجتمع ما بواعث كفيلة للثورة والنضال لانتشال هذا المجتمعات من تخلفها وفقرها ومرضها وجهلها.
في حوارته مع الباحثة الأميركية ليزا ودين، التي أعادت نشرها فصلية "بدايات" التي يرأس تحريرها الكاتب والباحث اللبناني فواز طرابلسي، وظهرت أخيرا في كتاب جديد، أبحر جار الله عمر، في إجاباته عن تلك الأسئلة، منطلقا من ذاكرة نضالية صلبة وحية تتدفق بسرد البدايات الأولى لحياته النضالية، وهو القادم من قاع المجتمع الفلاحي الذي أثقلته ثلاثية الجهل والفقر والمرض الإمامية.
في هذا الواقع البائس، نشأ جار الله عمر مناضلا منذ لحظاته الأولى في سبيل أن يتعلم أولا، مقاوما رغبة أمه، وهو وحيدها، بأن يظل مجرّد فلاح بقربها، والذي لا يمكنها أن تفارقه بعد تغييب الموت أباه، وأمام إصراره، رضخت أمه لطلبه وتركته يمضي إلى مدينة ذمار التي كانت معقلا لبعض الأمكنة العلمية المقتصرة على تعليم أسياسات القراءة والكتابة وبعض المتون المذهبية للفقه الزيدي الذي يدين به حكام تلك المرحلة. انتقل بعدها إلى صنعاء، بعدما وجد أن كُتاب ذمار لم تعد تشبع نهمه المعرفي، وهناك في مدرسة دار العلوم، لم يجدها تختلف كثيراً عما وجده في كُتاب ذمار، غير أنها كانت مخصصةً لطبقة من الناس دون غيرهم للدراسة فيها، ليتخرّجوا بعد ذلك لأداء وظائف خاصة بسلطة الإمامة، حكاما وقضاة وكُتاب محاكم وكُتاب وقراء رسائل للمواطنين الذين كانوا غارقين في جهل وأمية قاتلة وممنهجة.
في مدرسة دار العلوم بدأت أولى بوادر المعارضة للوضع السائد بالتشكل، كما بدأت تنشط خلايا أولى للأحزاب والتيارات السياسية العربية
انخرط جار الله عمر في هذه المدرسة التي بدأ يتشكل فيها وعيه بالشأن العام تدريجياً، من خلال احتكاكه بالنخب المثقفة، من الطلاب الذين سبقوه بسنوات دراسية، وممن بدأوا ينخرطون في نقاشات الشأن العام، وبدأت أولى بوادر المعارضة للوضع السائد بالتشكل، كما بدأت تنشط بعض الخلايا الأولى للأحزاب والتيارات السياسية العربية، كحركة القوميين العرب، وحزب البعث والإخوان المسلمين وغيرهم، من القادمين من عدن أو الذين عادوا من القاهرة وبغداد، كخرّيجي بعثة الأربعين وغيرهم.
تحدّث جار الله عمر في حواره عن البدايات الأولى للمظاهرات التي بدأت في كل من صنعاء وتعز، وخصوصا من طلاب المدارس الذين كانوا يتّخذون من سوء أوضاعهم المعيشية في المدارس مجرّد ذريعة للتظاهر. وهنا تحدّث عن اعتقالاتٍ طاولت بعضهم، وقراره على أثر ذلك الهرب إلى عدن برحلة طويلة وشاقة عبر البيضاء وأبين وصولا إلى عدن، المدينة الساحرة التي أذهلته وأدهشته معا، التقى بمعارضين عديدين لحكم الإمامة والعمال الذين استقبلوه هناك وأكرموه، عدا عن لقائه بالعالم والأديب والداعية الشيخ محمد سالم البيحاني، الذي طلب منه بالعودة إلى صنعاء، التي كان يرى أن فيها حاكما أفضل من الإنكليز حينها. واستطاع البيحاني إقناع الشاب الصغير جار الله عمر بالعودة لاستكمال دراسته الشرعية في صنعاء. وعاد إلى صنعاء لاستكمال دراسته، ولكن هذه المرة عاد بانطباع وفكر وأسئلة مختلفة عن تلك التي كانت تراوده في البداية، عاد إلى مدرسته التقليدية، وكان لا يزال متخوفاً، لكنه وجد أن المدرسة لم تعد كما تركها، فقد تم فصل كل الذين شاركوا في المظاهرات ولم يعد فيها سوى الأطفال الصغار، ومع ذلك قرّر البقاء فيها، وكان هذا تقريبا مطلع عام 1962، حيث كانت بوادر الثورة وجمرها تعتمل من تحت الرماد.
ساهم بحماية عبد الفتاح إسماعيل، الذي اعتقلته المخابرات المصرية في مديرية ماوية ونقلته إلى صنعاء
لم يشارك بالثورة، لكنه سمع بها من أحد زملائه، قبل حدوثها بأسبوع، وفعلا انفجرت الثورة، فصار اليمن كله مع مشهد جديد ومختلف يتشكّل، بدأت ملامحه مع وصول القوات المصرية لمساندة الثورة التي كانت مجرّد فعل احتجاجي في واقعٍ ملغومٍ بالتخلف وممانعة التغيير والثورة، لهول الجهل الذي كان يضرب أطنابه في واقع الناس. ولهذا يصف جار الله عمر ثورة 26 سبتمبر/ أيلول بأنها كانت مغامرةً غير محسوبة، وخصوصا أنها قامت في صنعاء وليس في تعز، وذلك لأن قلةً قليلةً من سكان صنعاء كانوا مع هذه الثورة، فيما الغالبية الكبيرة كانت مع الإمام وضد هذه الثورة، سواء داخل صنعاء أو في ضواحيها.
عقب الثورة مباشرة، أغلقت مدرسة دار العلوم، باعتبارها كانت موالية لحكم الإمامة، وافتتحت مدارس جديدة بكوادر تدريسية مصرية قدمت مع القوات المصرية، وبدأت تدريس العلوم الحديثة، كالرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها. وهنا تقدّم جار الله عمر لهذه المدرسة، وتم اختباره وقبوله فيها لإكمال دراسته مع رفاقه، وفيها بدأ ينخرط في الاشتغال السياسي، باستقطابه إلى صفوف حركة القوميين العرب التي كانت حينها في أوج تمدّدها ونشاطها، وفي الوقت نفسه، في أوج خلافها مع مصر جمال عبد الناصر بخصوص الملف اليمني، ودعم مصر جبهة التحرير، ومطالبتها بدمج الجبهتين في جبهة واحدة، وحينها وجهت الحركة أفرادها إلى الالتحاق بالكليات العسكرية والشرطية. وكان من نصيب جار الله عمر الالتحاق بكلية الشرطة في صنعاء، والتي كان يدرّب فيها ضباط مصريون. ويروي جار الله عمر هنا كيف كان يتم التضييق عليهم، والتهديد بفصلهم حينما تم اكتشاف أنهم منخرطون في تنظيم سرّي هو تنظيم حركة القوميين العرب بصنعاء وعدن وتعز على حد سواء. ويذكر كيف ساهم بحماية عبد الفتاح إسماعيل، الذي اعتقلته المخابرات المصرية في مديرية ماوية ونقلته إلى صنعاء، وكيف كلفتهم الحركة بحماية إسماعيل في معتقله في صنعاء لتسرب معلومات عن محاولة اغتياله هناك، وكيف تم تهريبه وتسفيره بعد ذلك.
يتوقف جار الله عمر عند محطةٍ فاصلةٍ من تاريخ اليمن الحديث، وهي أحداث أغسطس/ آب 1968، تلك الأحداث الدامية والقاصمة التي قسمت الصف الجمهوري بين معسكرين متصارعين بخلفيات سياسية ومناطقية ومذهبية وأيديولوجية أيضاً، قائلا إنهم، أي الضباط الصغار في الجيش، كانوا أكثر حماسة وطموحا، وأقل حكمةً من الآخرين الذين كانوا يدركون أهمية المصالحة الوطنية وعودة الملكيين إلى الداخل، باعتبارهم يمنيين لا يمكن إغفالهم في أي مصالحة.
تمكّن جار الله عمر من نسج علاقات واسعة من خلال وجوده في عدن مع كل الأطراف هناك
وبعد هذا الانقسام الكبير الذي تسبب بسحنهم وفصلهم وهروبهم من صنعاء إلى الأرياف، ومن ثم إلى عدن، وتفجر الصراع بين حكومة القاضي الإرياني أو ما تسمى حكومة 5 نوفمبر/ تشرين الثاني التي تشكلت بانقلاب أبيض على الرئيس عبد الله السلال، عقب زيارته إلى العراق، وإعلان حكومة القاضي الإرياني، بعد ذلك، ودخول اليمن مرحلة حربٍ أهليةٍ طاحنةٍ بين ما عُرف بالجبهة الوطنية الديمقراطية، وكانت هذه الحرب عقب انتهاء الحرب الملكية الجمهورية تماما، والتي انتهت بالمصالحة الشهيرة، وعودة الملكيين، فيما استمرّت الحرب الأهلية بين الجبهة الوطنية المدعومة من حكومة جنوب اليمن اليسارية، والحكومة اليمنية في صنعاء المدعومة سعوديا حينها لفترة طويلة، واستمرت حتى السنوات الأولى من حكم الرئيس السابق علي عبد لله صالح.
انتقل جار الله عمر بعدها إلى عدن، بعد فترة تخفٍّ في إب وتعز، وفي عدن بدأ مرحلة نضال جديدة، كان فيها عضوا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الحاكم بعدن، ونائبا لرئيس الحزب الديمقراطي الشعبي اليساري المعارض والمتمرّد في الشمال، تمكّن جار الله عمر من نسج علاقات واسعة من خلال وجوده في عدن مع كل الأطراف هناك، الجناح الثوري اليساري من الجبهة والجناح القومي المحافظ، وهو ما مكّنه من لعب دور كبير في مختلف محطات الصراع السياسي في جنوب اليمن. ويذكر جار الله عمر كيف مضت الأمور في عدن وصراعات الرفاق، وكيف أقنع الرئيس عبد الفتاح إسماعيل بالاستقالة من رئاسة الدولة التي كان يجمعها بجانب رئاستة الأمانة العامة للحزب الاشتراكي، وكيف غادر بعد ذلك عبد الفتاح إلى موسكو، ثم عودته ونشوب الأزمة الكبيرة التي أدت إلى أحداث يناير/ كانون الثاني 1986، تلك الأحداث الدامية التي قضت نهائيا على فكرة الدولة الاشتراكية في جنوب اليمن، وأثبتت فشلها بعد عقدين من التجربة والمحاولة، في مجتمع بدوي رعوي غير برجوازي. توقف جار الله عند تلك المحطة من تجربته ونضاله السياسي.
ولم تستكمل الباحثة لوري ودين الحوار لاستخلاص شهادة جار الله عمر في تجربة الوحدة اليمنية في 22 مايو/ أيار 1990، وحرب الانفصال 1994، وإعادة نشاط الحزب الاشتراكي اليمني بعد هزيمته في تلك الحرب، مع رفيق نضاله علي صالح عباد مقبل، وصولا إلى محطة تأسيسه تحالف اللقاء المشترك، الذي تمكن هو ورفيقه القيادي في حزب التجمع اليمني للإصلاح محمد قحطان (المختطف لدى جماعة الحوثي حاليا)، من تشكيل "اللقاء المشترك" الذي كان يقلق نظام صالح حينها، ودفع جار الله عمر روحه ثمن تلك الخطوة، في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2002، بطريقة تراجيدية، بعد إلقائه كلمة الحزب الاشتراكي في مؤتمر عام حزب الإصلاح، حيث مثل اللقاء المشترك حينها أهم تحالف في تاريخ الحياة السياسية اليمنية بين اليسار واليمين، لإخراج اليمن من دوامة الصراعات الأيديولوجية العقيمة التي كان اليمن ونظامه الجمهوري الخاسر الأكبر من كل تلك الصراعات التي تمكّنت من خلالها الإمامة الهاشمية الزيدية من العودة مجدّدا، وإسقاط الدولة والجمهورية والوحدة والديمقراطية معا في صبيحة 21 من سبتمبر/ أيلول 2014، بعد أكثر من نصف قرن من القضاء عليها.