جديد في السويداء
واقع أنّ ما يحصل في محافظة السويداء السورية منذ 16 أغسطس/ آب الجاري من إضراب واحتجاجات وعزل وإغلاق لمؤسّسات الدولة السورية وحزبها الحاكم، إنما ينطلق أساساً من نتائج سياسات إفقار تمارسها حكومة دمشق، بلغ مرحلة الجوع من دون أي مبالغةٍ أو مجاز، لا ينزع شيئاً عن أهمية الحدث وحمولته السياسية والجذرية. ما يحصل هناك يعيد السياسة إلى حيث يجب أن تنطلق، إلى مصالح الناس، وإلى حيث تجمع طبقات وأفراد ونواة حراك يحاول أن يجد لنفسه إطاراً منظماً تدرك السلطة الحاكمة أن أيامها تصبح معدودة ما إن يتشكل في المناطق التي لطالما طمأن النظام نفسه إلى حيادها عن السياق السوري العام، بصفتها إحدى عواصم الأقليات التي يدّعي حمايتها من الطائفة التي تخرّب أسس "المجتمع المتجانس" على ما روى بشّار الأسد غير مرّة.
الحدث في السويداء بحجمه وبامتداده وباتساع أفقه غير مسبوق منذ 2014. هو يحظى هذه المرّة بأوضح دعم من مشيخة العقل ومن شيخها حكمت الهجري، من تجّار السويداء، من موظفين حكوميين صار عليهم أن يستدينوا كي يصلوا إلى أماكن عملهم، لأن رواتبهم تكفيهم لمعيشة يومين قبل الرفع الأخير للدعم عن الوقود، وليوم واحد بعد رفعه، لبعثيين صغار تطوّعوا لإغلاق مراكز حزبهم في المنطقة تفادياً لإحراقها مثلما سبق أن حصل سابقاً. الحدث في السويداء لا بد أن يعرّف السوريين على وجوه شابّة جديدة من جيل ما بعد ثورة 2011، فجيل الثورة تعرّض لإبادة أودت بشبابه وبشاباته إلى القبور أو إلى المعتقلات والهجرة والمنافي أو إلى اعتزال كل ما يتصل بالشأن العام. الحدث في السويداء هذه المرّة لا ينحصر بعقدة سوق الشباب إلى الخدمة العسكرية مثلما كان يحصل منذ 2011. تسويات ظلّت تدور حول هذا العنوان، وأتاحت المجال لولادة عصابات بالجملة من صنع النظام أو ضدّه، وكلما اشتدّ الضغط على دمشق، عادت أحداث الجبل والسهل، السويداء ودرعا، خطفاً وجرائم متبادلة وفّرت لسلطة الأسد كل راحة البال التي يتمنّاها.
هذه المرّة، مرحلة أكثر جذرية تلوح في أفق السويداء. إن صدّقنا مصادر محلية تحدّثت لمراسلي "العربي الجديد" في المنطقة، "سيُعقد خلال الأيام القليلة القادمة مؤتمر يحضره منظمو الحراك الشعبي في المحافظة ستنبثق عنه جهات تنظيمية لإدارة شؤون المحافظة من مختلف النواحي". إدارة تترجم عديداً من الشعارات التي أمكن رصدها من فيديوهات توثق احتجاجات المنطقة، وتنادي بوحدة سورية وإسقاط النظام الذي حوّل سورية "من مهد الحضارات الى دولة المخدّرات"، ورفض الطائفية والمناطقية وعهد بتنفيذ اللامركزية الإدارية ومخاطبة بقية المحافظات السورية وتسمية إيران كمطالبة بالخروج من البلد. المنسوب السياسي في هذا الكلام مرتفع، يواكبه الشيخ الهجري بخطابٍ لو قيل من قبل غيره، لكان عُدّ عاماً ومنخفضاً وفيه من التقيّة ما فيه. لكن أن يقول الهجري الذي لطالما اعتُبر أقرب إلى خطاب السلطة، إن "البلد ومقدّراته حق للشعب وليس هنالك تفويضٌ لأي أحد مهما كان ببيع أو رهن او تأجير هذه المقدّرات"، وأن يدعو الرجل في بيان يوم السبت الماضي إلى "تحقيق التغيير وتحقيق العدالة" وإلى "اقتلاع كل غريب وكل مسيء من أرضنا، وكل حارق مارق قبل أن يسرق أموالنا من موقعه (...)، لأننا أصبحنا أمام غرباء استباحوا مقدراتنا وخيراتنا بطرق مشكوكٌ بأمرها"، مع ما يحيل ذلك الكلام إلى النظام مباشرة ورعاته من إيرانيين وأتباع لبنانيين لهم حسب ما يشرحه عارفون في معجم مشيخة العقل السورية، فإنما ذلك يُعتبر تجاوزاً لسقف لا يستطيع النظام أن يحتمله من أحد الأركان المفترضين لتحالف الأقليات.
صحيحٌ أن الذي يحصل في السويداء قد ينتهي بخيبةٍ جديدة، بحيلة أخرى من النظام وبتنازلٍ ما منه على غرار قراره منع توقيف المطلوبين الدروز للأجهزة الأمنية، لكنه أيضاً قد لا ينتهي إلا بأن يصبح حدثاً سياسياً في إطارٍ وطنيٍّ أوسع، فقط إن استطاع أهل دمشق والساحل وحلب وحمص التنفس وتقديم نسختهم الخاصة من محاولة العيش خارج جحيم سورية ــ الأسد.