جريمة الحبّ غير المشروط
قالت المرأة الحزينة، وهي تذرف دموعاً غزيرةً تعبّر عن مدى قهرها وغضبها: ذنبي الوحيد أنني أحببتُه أكثر من نفسي، دامت علاقتي به ثلاث سنوات، منحني فيها الفرح والأمان والأمل، وقدّمتُ فيها تضحياتٍ كثيرة، واحتملتُ الانتقادات القاسية بسبب فارق السنّ بيننا، فأنا أكبُره بعشر سنوات. في البداية، لم يشكّل ذلك أيّ أهمية بالنسبة لنا، فقد كانت مشاعر الحبّ الجيّاشة التي جمعتنا جارفة طاغية، قادرةً على تحدّي كل الصعوبات. بدت الأرقام حينها مسألةً ثانويةً لا تستحقّ التوقّف، على الأقل هكذا تخيّلت، وأنا أرسم معه شكل مستقبلنا، ونخطّط لحفل زفافنا ولبيتنا الصغير ولأطفالنا الذين سيأخذون لون عينيه العسليتين، غير أنني سرعان ما صحوتُ من حلم عذبٍ طويلٍ، حين علمتُ أن عائلته ترفضُ فكرة ارتباطنا بالمطلق، وترى في هذا الزواج علاقة غير متكافئة، ليس بسبب مظهري أو أخلاقي أو مستواي الاجتماعي أو تحصيلي الأكاديمي، فأنا امرأة جميلة من طبقته الاجتماعية نفسها مشهودٌ لي بأخلاقي الحسنة واتّزان شخصيتي وسمعتي الطيبة ونجاحي المهني وعلاقاتي الإنسانية المتوازنة، غير أن عائلته المصون تراني عجوزاً على مشارف الأربعين فاتني القطار، لا أصلح للزواج والإنجاب، وأن ابنهم يظلم نفسه إذا ما مضى في هذه العلاقة الخاسرة غير المُجدية على المدى البعيد، وأنه سيصبح أضحوكة لو تم الزواج.
قال لي إنه لن يرضخ لضغوط العائلة، وإنه لن يتخلّى عن حبّنا تحت أي ظرف، ووعدني بأنه سوف يعمل على إقناعهم وسوف ينتزع موافقتهم، وأنه لن يتزوّج سواي، حذّرتني الصديقات من مغبّة تصديقه. كنَّ متأكّداتٍ أنه سوف يتراجع عن موقفه في النهاية. لم أصدّقهن، بل ثُرتُ في وجوههن، واتهمتُهن بأنهن لا يُردن مصلحتي، وسوف يفشلْن في تحريضي ضدّه، فقد كانت ثقتي به مطلقة، وظللتُ على يقينٍ بأنه سيظلّ متمسّكا بي، ثابتاً على موقفه، قادراً على مواجهة العالم بأسره من أجلي، غير أن لهجته المتحدّية صارت خافتةً رويداً رويداً، فيما واصلت عائلته ضغطها الشديد، وقد وصل الأمر بوالدته أن تُشهر بوجهه تهديد سحب الرضا واتهامه بالعقوق والتبرّؤ منه لو ظلّ على عناده، وأخَذت تقترح عليه أسماءً من بنات الصديقات والجارات والأقارب، وتفتعل المصادفات كي تجمعه بهن على أمل أن تُعجبه إحداهن، فتيات في مطلع شبابهن مستعدّاتٌ وموافقاتٌ على فكرة زواج الصالونات.
حين أصابها اليأس من إمكانية التأثير عليه، طلبت التعرّف إلي، وحين التقيتُ بها ضبطتُ نفسي كثيرا كي لا أقلّل من احترامها، لأنها أسمعتني كلاما على شكل نصائح، لكنه كان في غاية القسوة، قالت لي: "النسوان بتهرم أسرع، زوجي يكبرني بعشرين سنة، ومع ذلك، نبدو الآن في العمر نفسه. بعد كم سنة ستهرمين أكثر، وسوف يظنّ الناس أنك أمه، كما أن الإنجاب في عمرك خطير جدّاً، قد تنجبين أطفالاً بإعاقة. عندها، لن ينفع الندم، ثم كيف تقبلين على نفسك الزواج من رجلٍ ترفضك عائلته. يا ريت تلاقي زوج من عمرك أو أكبر منك سيكون ذلك في مصلحتك، صدّقيني".
ابتلعتُ الإهانات المتتالية من الستّ الوالدة، وحاولتُ إيجاد مبرّراتٍ لها. لم أجادلها ولم أحاول إقناعها بشيء. لم أشعُر بأن من حقّي مناقشتها في أفكار بائسة راسخة لديها، وأن ذلك مسؤولية ابنها، ابنها نفسه، حبيبي الذي لم يجرُؤ على مواجهتي، واكتفى برسالة نصّية مقتضبة، جاء فيها "حاولتُ كثيراً. لستُ ابناً عاقّاً، عصيان أمي أمرٌ فوق طاقتي، سامحيني".
كفّت المرأة الحزينة عن البكاء، وقالت هامسةً كمن يخاطب نفسه: المهم أن أسامح نفسي أولا، لأني عطّلتُ كل مداركي وتواطأتُ ضد نفسي، واقترفتُ، عن سابق غباء وتهوّر، جريمة الحب غير المشروط.