جلجامش يرثي يمان الخطيب
كان موت إنكيدو امتحان جلجامش العسير، وبحثه، أو قل مغامرته الكبرى في البحث عن الخلود. لقد انتهى (إنكيدو)، بحسب ألواح الملحمة الكبرى، "إلى ما يصير إليه البشر". ولقد بكاه جلجامش في الليل والنهار، وندبَه ستة أيام وسبعة ليالٍ، على أمل أن يقوم من رقدته الأبدية من كثرة البكاء والنواح، لكنه انتهى إلى ما يصير إليه البشر، وهو الموت، حيث لا رجوع.
الموت الصادم في حالة إنكيدو، الذي يدفع إلى الأسئلة الكبرى، عن الولادة والموت، عن الآلهة والخلود، لا تجده في الملاحم الكبرى والنصوص الأدبية وحسب، بل في الحياة من حولك أيضاً، لكنّ ثمة موتاً يدفع إلى التساؤل عن معانٍ أخرى لا تقل أهمية، من مثل غياب العدالة في الحياة، وهو فادحٌ ومتوحّشٌ في حالة السوريين منذ ثاروا على نظامهم.
يمان الخطيب مثالٌ حاضر وراهن، فهو ناشط وصحافي هرب من الموت في بلاده إلى تركيا، وفيها أقام. يبدو في الصور بملامح أوروبية. بلحية مهذبة بعض الشيء ونظارة شمسية. يبتسم للكاميرا وهو يحمل ابنه ويرفعه عالياً. في صورة أخرى، يقف على صخرة صغيرة وخلفه البحر. أما صورته على "فيسبوك"، فتبرز فيها لافتة خلف صورته، كُتب عليها: عاشت سورية ويسقط الأسد. ولمن لا يعرف هذه المنطقة من العالم لن يصدّق أن هذا الشاب مهجّر وضحية نظامه، وأنه، كبقية أبناء جيله، يدفع ثمن الحلم بالحرية في أبسط معانيها، وهو ما كلفه وسواه الكثير.
لا يعرف كاتب المقال الشاب يمان الخطيب، فهو صديقٌ افتراضي على "فيسبوك"، إلا أن مصيره شكّل هاجساً شخصياً في الأيام الأخيرة التي سبقت وفاته، فقد تكرّرت كتابات أصدقائه الحقيقيين الذين شعروا بالقلق على حياته بعد الزلزال. كانوا يسألون ويتسقّطون الأخبار عنه، وما إذا كان قد نجا من تحت الأنقاض. وفي كل يوم، كنتَ تقرأ عشرات الكتابات القلقة والمستفسرة عن مصير ذلك الشاب الذي تُظهره الصور على طيبة ظاهرة، إلى أن تأكّدت وفاته وزوجته وأبنائه الثلاثة وبقية أفراد أسرته تحت الأنقاض.
رثاه عشرات. كتبت إحدى صديقاته: أنتم الآن أحرار. كتب ثانٍ في وصفه أنه من أنبل من أنجبت حلب. كتب ثالث: يا الله لم نعد قادرين على تحمّل كل هذا، ورابع: سورية مقبرة للأحياء قبل الأموات، "مو عادل هذا اللي عم بصير أبداً، مو عادل".
كان الكاتب والقاص السوري جميل حتمل (1956 - 1994) يقول كلاماً شبيهاً لمعارفه عن سورية، بل إن عنوان إحدى مجموعاته القصصية "حين لا بلاد"، وليس ثمّة ما هو أكثر دلالةً. توفي حتمل في أحد مستشفيات باريس. ومن يعرفه أو يتذكّر صوره يعرف أنه كان هشّاً لكنه مبتسم، كأن ثقباً في القلب كان يجعله يفعل هذا ليخفي حزناً مقيماً لا يفارقه. هرب حتمل من بطش نظام بلاده وترك وراءه طفله في دمشق. هرب والثقب في قلبه يتسع ويقضم عمره من دون أن يقضي على طفولة وجهه وملامحه. كتب عبد الرحمن منيف: "كان جميل حتمل بابتسامته الأخاذة أشبه بالطفل. كلا، على الأرجح لم يكن إلا طفلاً ولد عام 1956 واستمرّ هكذا". ينطبق الوصف تماماً على يمان الخطيب بابتسامته الطيبة، وعلى كثيرين ممن قُتلوا بلا سبب في سورية، سوى أنهم ثاروا على نظامهم، فعاجلهم بالقتل بكل وسيلةٍ توفرت لديه.
ولأن الموت يذكّر بالكتابة عنه، تحضُر مرثاة سعدي يوسف المؤسية لنجله حيدر. يسافر سعدي من دمشق إلى عمّان فمانيلا ليستعيد جثة ابنه، ويستذكر طفولته وعاداته، بينما هو يتأمل المكان الذي سُجّيت فيه جثة ابنه بعيداً عن العراق. ينجح سعدي في استعادة الجثمان والعودة به إلى دمشق. أما جميل حتمل فدُفن في باريس، لا دمشق، ويمان وآلاف سواه، في أقرب أرض توفرت لدفن ضحايا الزلزال المدمّر، فالسوري لا يعود إلى بلاده إذا عاد إلا ليُدفن فيها، وأحياناً كثيرة لا يُتاح له ذلك، فسورية نفسها تحوّلت إلى مقبرة كبيرة، لا تنفكّ تبتلع أبناءها وبناتها، بينما هم يموتون فيها وخارجها تحت ترابٍ غريب وبلا مراثٍ تليق. ولا شيء يُعيد الموتى. لا بكاء ولا نجيب: جلجامش كان يعرف هذا.