جنازة الحزب الاشتراكي الفرنسي
شهد الحزب الاشتراكي الفرنسي في الأسبوع الماضي ذروة التراجع، التي تمثلت في صراع الورثة الصغار على التركة الكبيرة، وحصول انشقاق بين مجموعتين تدّعي كل منهما تمثيل الحزب، الذي لم يتمكّن في الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي حصلت في مايو/ أيار الماضي من الحصول على أكثر من 2% من أصوات الناخبين، وكان ذلك بمثابة علامة النهاية في مسار هذا التيار، الذي بقي، منذ تأسيسه عام 1969 في ظل الجمهورية الخامسة، يشكّل أحد عمودي البيت السياسي الفرنسي، إلى جانب خصمه ومنافسه الحزب الديغولي، الذي مثّل اليمين التقليدي الاجتماعي، وكان هو الآخر قد تدنّى رصيده إلى حدٍّ مزرٍ في انتخابات العام الماضي. وما يحصل داخل "الاشتراكي الفرنسي" تتويج لمسيرة التراجع منذ عدة أعوام، وكان آخر حضور قوي له، حينما أوصل فرانسوا هولاند إلى الرئاسة في 2012، ومع نهاية ولايته في 2017 استخدمه إيمانويل ماكرون الذي كان ينتمي لتيار الوسط، وما أن دخل قصر الإليزيه حتى تخلّى عنه، وأسس تياره الخاص به، الذي يختلف كليا عن "الاشتراكي".
وصل الحزب الاشتراكي الفرنسي إلى مرحلة الذروة في ثمانينيات القرن الماضي، عندما فاز مرشّحه فرانسوا ميتيران بأول ولاية رئاسية له عام 1981، ثم حاز الثانية في 1988، وبذلك حكم فرنسا فترة مديدة لم تُتح لحزب قبله. وعلى خلاف ما هي عليه أحزاب اليوم، كان "الاشتراكي الفرنسي" أحد الأحزاب ذات البعد الدولي، وتمثل ذلك من خلال موقعه داخل حركة الاشتراكية الدولية، التي كانت في حالة نزاع مع الشيوعية السوفييتية، وبرزت تيارا ضمّ نخب اليسار الديمقراطي ويسار الوسط في وجه التيارات الشيوعية على تعدّدها، ونجحت في الوقوف في وجه المد الشيوعي داخل أوروبا، وخصوصا في فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا، حيث استطاعت الأحزاب الشيوعية تنظيم الحركة العمّالية في نقابات قوية، يحتفظ بعضها بثقله، كما هو الحال في فرنسا. وتمكّن "الاشتراكي" من أن يوسّع لنفسه حيزا سياسيا مهما بين الشيوعيين واليمين والتقليدي، وهذا ما أوصله إلى الحكم في الثمانينيات، عندما أصبح مفتوحا على النخب المدينية والطبقة الوسطى والمثقفين وفئة الموظفين العريضة.
بدأت نهاية الحزبين الاشتراكي والجمهوري تترك آثارها على الحياة السياسية في فرنسا، التي تبدو فيها المعادلة مختلّة من دون أحزاب قوية متنافسة، ويعكس الوضع الجديد نفسه من خلال الفراغ الحاصل، والذي برز بقوة بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية في العام الماضي. وتبرهن التطورات على أن غياب قوى سياسية ذات ثقل معنوي وشعبي كبير ينتج شروخا عميقة في المشهد السياسي، تفتح المجال لظهور قوى وحركاتٍ بعيدة عن تقاليد العمل السياسي الديمقراطي، التي تحترم الاختلاف والتداول على السلطة. وتبيّن أنه كلما تراجعت قوى الاعتدال نمت قوى التطرّف، وهذا يظهر اليوم أكثر في حال اليمين منه في اليسار، حيث بدأ اليمين المتطرّف يرث اليمين التقليدي في أكثر من بلد أوروبي، مثل فرنسا، إيطاليا، وبريطانيا، وأخذ يصل إلى الحكم وهو يرفع شعاراتٍ شعبويةً وعنصريةً ضد المهاجرين والأجانب، ما ينتج بيئة سياسية واجتماعية متوتّرة، ويقوّي من خطاب الكراهية، في ظل العجز عن تقديم حلولٍ للأزمات الاقتصادية التي تفاقمت خلال العقد الأخير، وزادت حدّتها بسبب ظهور وباء كوفيد - 19 واندلاع حرب روسيا على أوكرانيا. وتبدو أوروبا ساحةً مؤهلةً أكثر من غيرها لتحوّلات سياسيةٍ وانزياح كبير نحو اليمين المتطرّف، بسبب الجوار الجغرافي مع بلدان الهجرة. ومن هنا، يقف غياب حزب، مثل الاشتراكي الفرنسي، في وجه الموجات اليمينية المتطرّفة، يعدّ مؤشّرا سلبيا، فيما يتعلق بمستقبل الديمقراطية والحرّيات والتعايش ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا ككل، وبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط.