جنازة شيرين .. الإعلام شاهداً وقتيلاً
لا تكاد توجد حرب نشبت خلال العقود القليلة الماضية إلا وسقط في ميادينها إعلاميون قتلى أو جرحى أو مفقودون، بل إن إسرائيل في واقعة شهيرة حقيرة في غزة في العام الماضي (2021)، استهدفت عمدًا بناية تضم مكاتب إعلامية، بينها وسائل إعلام غربية. وفي حرب أوكرانيا التي لم تطو شهرها الثالث بعد، سقط ما يزيد عن 15 صحافيًا قتلى، فضلًا عن مفقودين بينهم "إعلاميات"، وكما قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته: "وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم"، لكن الحرب المتلفزة في تجارب عديدة كانت تحمل الموت لشهودها. وبعض الشهود تقتله كلمات زملاء مهنةٍ يشاركون في "إعلام الكراهية"، بالضبط كما يقتلهم رصاص القتال!
وقد كان هذا الدور سببًا في أن يصبح اسم وزير الإعلام النازي جوزيف غوبلز لا يقل شهرةً عن أدولف هتلر نفسه. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين كله تقريبًا، كان الإعلام الشمولي، بلغة الحشد ومفردات قاموس التحريض، من أكثر حقائق السياسة تأثيرًا قبل بدء حقبة البث الفضائي، وقد كادت الحرب الأهلية في يوغسلافيا تبقى حدثًا لا يلفت الأنظار رغم دمويته، حتى صوّر مراسل غربي، قدرًا، قصفًا صربيًا لطابور خبز سقط ضحاياه أمام الكاميرا لتتحول بعدها مأساة البلقان إلى خبر يتصدر المشهد الإعلامي العالمي.
يرتكب الإعلام الشمولي المحرّض على الحرب جريمة أكبر بحق الإعلام المستقل الذي لا تكاد آلة عسكرية إلا وتستهدفه
ومنذ الحرب الأهلية الرواندية (1994)، عادت القضية إلى صدارة اهتمامات الباحثين، حيث ساهمت محطات إذاعية رواندية في أكبر جريمة إبادة جماعية بعد الحرب العالمية الثانية. وفي محاكمات ما بعد الحرب، دين إعلاميون بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية. وفي العام 2020 صدر في 640 صفحة كتاب أثار ضجة كبيرة في الغرب "الإعلام وجرائم الإبادة الجماعية" لآلان طومسون، أستاذ الصحافة في جامعة كارلتون بأوتاوا، وسابقًا مراسل صحيفة تورونتو ستار الكندية في رواندا، حيث شهد الإبادة الجماعية. كشف عن مشاركة "إعلام الكراهية" في إشعال نار الإبادة، نقل عن واحد من قيادات القوات الدولية قوله: "من موقعي قائدا في قوات حفظ السلام، أتيحت لي الفرصة لمتابعة الموقف الغريب للإعلام المحلي الذي كان يشعل النار ويشجع على القتل". وفي فضاء "السوشيال ميديا"، بتأثيرها غير المسبوق، تثار القضية نفسها في وقائع عنف مروّعة، أشهرها إبادة أقلية الروهينغا في ميانمار التي أديرت بعض وقائعها تحريضًا وتبريرًا وتوجيهًا للقتلة إلى أهدافهم عبر حساباتٍ أثار الكشف عما نشرت موجة مساءلة لإدارة "فيسبوك"، ضمن وقائع أخرى كان الموقع هو منصّة مرتكبيها، وصولا إلى واقعة اقتحام الكونغرس الأميركي.
وإعلام الكراهية "الشمولي" المتهم بالمشاركة في إشعال بعض الحروب، حربًا أهلية أو بين جيشين نظاميين، لا يرتكب جريمته بحق المستهدفين، سواء كانوا مجموعة سكانية مستهدفة بالإبادة أو جيشًا نظاميًا، أو حتى مدنيين تصيبهم شظايا الحرب، حتى لو لم يتقصّدهم، بل يرتكب الإعلام الشمولي المحرّض على الحرب جريمة أكبر بحق الإعلام المستقل الذي لا تكاد آلة عسكرية إلا وتستهدفه، بدرجة أو أخرى، رغبة في "قتل الشهود"!
يتمترس فلسطينيون، في مواجهة عنف مليشياوي لا يتصوّر عاقل أن يرتكبه جيش نظامي. وفي قلب مشهد الصمود نعش إعلامية مقدسية لم تأتمر بأمر متنفذٍ
وجنازة الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة في القدس، وجه للحقيقة يكره الصهاينة وحلفاؤهم من العرب أن تراه الشعوب العربية، حيث يتمترس فلسطينيون، في مواجهة عنف مليشياوي لا يتصوّر عاقل أن يرتكبه جيش نظامي. وفي قلب مشهد الصمود نعش إعلامية مقدسية لم تأتمر بأمر متنفذٍ: مستعلنٍ أو متستر خلف قناع، ولم تؤجّر حنجرتها لسفاح يقتل شعبه. ومن هذا المشهد، تسطع حقيقةٌ بحجم خريطة الوهن العربي البائس: شعوبنا وفية للحق والأرض والإنسانية، وقادرة على دفع ثمن الحرية والحقيقة. ورد الفعل الوحيد المتاح، في فضاء "السوشيال ميديا"، يقول بوضوح إن شعوبنا منحازة إلى صوت الإعلام الحر، وإن إسكات صوته هدفٌ مشتركٌ لمن قتلوا شيرين أبو عاقلة، ومن يصرّون، عشرات السنين، على حرمان الشعوب العربية من "شهود عدول" في فضاءات الكلمة والصورة.
وفي مشهد وداع شيرين ينفتح الجرح، جرح المقارنة بين إعلام يدعو إلى القتل ويمجّد القتلة وإعلام آخر يدفع المنتسبون إليه من حياتهم ثمن الانحياز للضحايا. وفي فلسطين يولد "عربي جديد" صمد وهو يحمي نعش "الشاهدة" من إجرام القتلة، فلم ينكسر لموتها ولم يتردّد في حماية نعشها.