"جنود الرب"... أو ما بعد قتل السياسة في لبنان
من بين الكوارث الكثيرة التي يتسبّب بها حزب الله في لبنان، أنه يثير حسد البعض. وهذا البعض متعدّد الانتماءات دينياً وطائفياً، وكلاهما، الدين والطائفة، يتجسّدان في الحزب الوحيد في العالم ربما (ما عدا "جيش الرب" في أوغندا) الذي لا ينسب نفسه في اسمه إلا لله مباشرة. هو حزبه وجيشه وقوته الضاربة الحصرية، فمن هو الذي لا يحسُده عندما يدرك أن "حزب الله هم الغالبون"، لا بالمعنى الذي تذهب إليه الآية القرآنية، بل كما أرادته إيران المؤسِّسة والمموِّلة والمدرِّبة وولية أمر كل صغيرة وكبيرة تتعلق بالحزب؟ والحسد الذي يثيره حزب الله يتّخذ أشكالاً مختلفة، أحدها يستفحل منذ أربع سنوات في منطقة الأشرفية ذات الغالبية المسيحية من بيروت، تحت مسمّى "جنود الرب". "جنود" يتداخل في ظاهرتهم كل التخلف الديني للكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، مع الشكل التنظيمي لما قد يتحوّل نازية لبنانية مسيحية جديدة بقمصانهم السوداء الموحدة وخطابهم الرجعي وتحرّكاتهم العسكرية الحريصة على عدم إظهار السلاح، وتفرّغهم لحماية المصارف في "المناطق المسيحية" من المنتفضين خلال "ثورة تشرين" 2019، وشعارهم الصليب المحاط بالأجنحة، وتمجيدهم "المقاومة المسيحية" وصليبها المشطوب في الحرب الأهلية، ودورياتهم الأمنية على مدار الساعة لرصد الألوان واختلاطها لكي لا توحي بأي شيء قد يفهمه عقلٌ على أنه يذكّر بقوس قزح، حتى ولو كان ينقصُه الكثير من الألوان في حملة توعية من سرطان الثدي مثلاً، وحتى ولو كان لوناً واحداً زهرياً لإعلان فيلم "باربي" التي تعلّم على المثلية كما نوّرنا أحد جنودهم على موقعهم الإلكتروني. وإن كانت البابوية الكاثوليكية في روما قد أعادت النظر بمحاكم التفتيش وبكل مواقفها الدموية السابقة المحرّضة على إبادة المثليين واعتذرت عنها، فإن "جنود الرب" قادرون على تلقينها دروساً في الدين واللاهوت، وما أدراهم بالمسيحية هناك في الفاتيكان؟ قد يكونون تأثروا بمعاشرة العلمانيين والملحدين والمثليين لذلك صار كلام حبرهم الأعظم فيه تسامح وتقبل للاختلاف الديني والسياسي والجنسي والثقافي، فأخرجوه بفرماناتهم من ملكوت كنيستهم وأحلّوا مكانه كاهن ما من رَبْعهم من آخر حي في أبعد قرية لبنانية تقع على "أرض الرب" وفق معجم خرافاتهم.
"جنود الرب"، أو "أولاد الرب يسوع" مثلما يعرّفون عن أنفسهم بكل تواضع على موقعهم الإلكتروني، قرأوا السياق العام جيداً: في زمن انهيار الدولة، كل شيء مباح. الأمن الذاتي يأتي بشعبية، والبطالة تستدعي العضلات المفتولة القابلة للتوظيف. المزايدة بالتخلف كلها فائدة. تجاوز الصواب السياسي وصفة للشعبوية ولخطابها. تكسير عظام مشجعي المنتخب المغربي السعداء بفوزه على البرتغال في كأس العالم ذات ليلة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي عند ساحة ساسين وسط الأشرفية، لأنهم أتوا من الطريق الجديدة في الجزء المسلم السني من بيروت، قد يجلب مئات المتطوّعين الإضافيين. أجهزة الدولة تريحها ظاهرة مثل "جنود الرب" طالما أن لا فكرة سياسية واحدة مفيدة تجدها في أدبياتهم. هم يريحون أجهزة الدولة كذلك لأنهم يتناغمون كلياً مع التخلّف العام السائد في كل ما يتعلق بالقيم الأخلاقية المطلوب أن يكون كل المقيمين في لبنان صورة عنها. لهم موقع إلكتروني هارب من مفردات القرون الوسطى ومحاكم التفتيش. ولأن لا شيء ينافس الجنون العام الذي يتملك اللبنانيين هذه الأيام ضد شبح المثلية، فإنك تجد في موقعهم أخباراً هي أقرب ما تكون إلى طلقات الرصاص في عناوينها وصياغاتها ومفرداتها (وكثير منها باللهجة العامية) ضد "نسل إبليس" و"معالجة الشاذين" و"دعارتهم" و"طرد الشياطين" و"أنصار الشيطان في الكتب المدرسية" و"نواب الشيطان" (عن نواب وقعوا مشروع قانون لإلغاء تجريم المثلية) و"تهويل الإعلام الشيطاني" (عن أي خبر ينتقد "جنود الرب").
حزب الله قتل السياسة بما هي صراع حر وسلمي للأفكار والبرامج والمشاريع. وبقتلها، ترك فراغاً هائلاً يملأه فيضان الكراهيات بين الطوائف والأديان والمناطق، ومسابقة على البشاعة يتنافس فيها هؤلاء جميعاً لنيل لقب المستقوي الأول على أضعف الفئات، أكانوا لاجئين أو مثليين مثلاً. لقب يليق ببائعي صكوك غفران عائدين من ماضٍ يرفض أن يمضي، أكان اسمهم جنود للربّ أو حزب لله.