جنون الساحرة والأقلام الموتورة
كثيراً ما يتم الحديث في أوروبا عن تقبّل الثقافات واحترامها، وتعدّ حالة التعايش بين القوميات والمذاهب وحرية ممارساتها من علامات الحياة الغربية. ولكن عندما حان موعد اختبار هذه السياسات والثقافات في قبول الآخر على أرض عربية سقطت بعض وسائل الإعلام في امتحانها الحقيقي، كحال سياسيين ومسوّقي حملاتٍ ضد تنظيم دولة عربية بطولة كروية شعبية وعالمية، فانتهجت وسائل الإعلام الغربية سلوكاً مغايراً لمقرّراتها المدرسية والاجتماعية، وهي بحملتها المعادية لتنظيم دولة قطر العربية بطولة كأس العالم تنتهك سياسات احترام الثقافات المختلفة، بل هي تحاول أن تضع الثقافات في مواجهة بعضها كأعداء، وكأن تقبل الآخرين مشروطٌ بدخولهم تحت عباءة ثقافة غربية ملزمة، متجاوزين اعتباراتٍ دينيةً وتاريخيةً للشعوب العربية، ما يعيد إلى الذاكرة مبرّرات الاحتلالات الغربية لدول كثيرة، ومنها الدول العربية، تحت حجج عدم أهليّتها للحرية وحاجتها إلى من يتولّى شؤونها.
لم يدرك بعض كتّاب وسائل الإعلام الغربية خلال حملاتهم العدائية لبطولة كأس العالم في قطر أن تنظيم دولة عربية مباريات كرة القدم ذات الحضور الشعبي الكبير قد يكون جسر التواصل الحقيقي بين الشعوب، ويجسّد لقاء الحضارات وتكاملها، بعيداً عن ملتقيات الزعماء والمسؤولين الرسميين المغلّفة دائماً ببيانات مستهلكة، لم تستطع القفز أبعد من مصالحها الآنية والاستهلاكية، وفي أحيانٍ كثيرة، الاستغلالية لإمكانات الدول العربية وثرواتها.
لماذا يبتعد بعض الإعلام الغربي عن أساسيات الرياضة في شعبيتها وعفويّتها وأمميتها، فيعمد إلى أدلجتها، ويدخلها في ملفاته السياسية وتصفياته الانتقامية، والانتقائية، كأن يصطاد عبارةً من هنا، أو خطأ من هناك، لتوظيفها في حملةٍ تنال من شعوبٍ عربية بكاملها ومن ديانتهم وقيمهم وتقاليدهم، وهو ما قد ينعكس على قدرة التعايش داخل أوطانهم المنفتحة والمتأسّسة على تنوع القوميات والأديان والمرجعيات الثقافية واحترامها، بالتساوي مع آثاره على العلاقات الدولية وتشعباتها؟
ترفع الحملات التي يشنّها بعض الغرب من قادة سياسيين ومثقفين وإعلاميين من جدران الحدود مع المجتمعات العربية جميعها
يستوجب الدفع نحو تعميم شرعة حقوق الإنسان إعطاء الفرص للآخرين، وليس هدرها، ومنعها عن الشعوب، وتنظيم حدثٍ شعبيٍّ عالميٍّ بمقاييس دولية قد تكون رائدة على كل المستويات، بما فيها المستوى الحقوقي للعمالتين المحلية والأجنبية، في البلاد، هو نقلة نوعية تُحسب للمنظّمين، وهي تعبّر عن إرادة التطوير والانفتاح على كل ما من شأنه أن يخدم المجتمع، والعاملين فيه، وواقع الرياضة ذاته محلياً وعربياً أيضاً، وهو ما يمكن أن يكون النموذج القياسي للجميع، وكان يمكن أن تُحسب أيضاً للمساندين لتجربةٍ نوعيةٍ على المستويات العربي والإقليمي والإسلامي، عموماً، بديلاً عن حملات الكراهية والتشكيك وتهويل خسائر الأندية الرياضية الغربية.
ترفع الحملات التي يشنّها بعض الغرب من قادة سياسيين ومثقفين وإعلاميين من جدران الحدود مع المجتمعات العربية جميعها، سواء كانت بقصد الفصل بين الشعوب، أو بقصد الاحتكار الأجنبي لمثل هذه المناسبات الاحتفائية الشعبية، والتي شكّلت، في حقيقتها، على مدار 21 بطولة سابقة، أي من نحو 92 سنة، رابطة تجمع بين الشعوب، أزالت خلالها أحجار الحدود والألوان والقوميات، وخرقت قواعد المنع، وفتحت أفق الانتماء لمن يقدّم المتعة والسعادة خلال 90 دقيقة تعزف على قلوب المشجّعين وتصفيقهم وهتافهم.
تحاول أصواتٌ موتورةٌ خطف وهج الفرحة، قبل أن يسمحوا لها بالعبور إلى وجوهنا، نحن شعوب هذه الدول الصغيرة المشاركة في "المونديال"، وغير المشاركة، نتمسّك بما يمثله هذا الحدث الكبير من فرحة لشعوبنا، بعيداً عن وجع السياسة وقهرها، ونقدّر ما يمكن أن تتركه مشاركات بعض الدول الصغيرة والفقيرة في هذه البطولات العالمية في ذاكرة أجيال قادمة لتتأسّس عليها أحلامهم، كما تأسّست أحلامنا، نحن جيل الستينيات، عندما لعبت الجزائر في بطولة عام 1982، وتغلّبت على ألمانيا التي لعب فريقها المباراة النهائية مع إيطاليا، وعندما لعبت مصر في بطولة عام 1990، وبقيت أسماء كل المشاركين في ذاكرة الشعوب العربية رغم مرورها العابر في مبارياتها الثلاث الأولى فقط.
بدّدت قطر باستضافتها المونديال توهمات الغرب عن عجز الدول العربية عن رعاية أنشطة دولية
فيما تبقى من أيام انتظار لبدء شعلة بطولة كأس العالم في قطر يوم الأحد، 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، نرتب أحلامنا، ونضع تفاصيل شوقنا الممتدّ من أعوامنا الأربعة السابقة، نستعيد قدرة خيالنا على بناء فرقنا كما نحبّ، ونتجاهل ما يقوله مدرّب فريق هنا، ومدير هناك، تتحرّك أقدامنا، وتركل كراتهم، نتوهّم الأهداف مع كل خطوةٍ باتجاه مرمى الخصم، ونصرُخ هدف.. ضاعت.. ظلمنا.. ونربت على أكتافهم، بل هي أكتافنا.. ونشحذ هممنا كأننا محور العالم وهذه الساحرة المستديرة بين أقدامنا نحن، وليس هم، نحن اللاعب رقم 12 في ملعب لا يقبل 11 + 1، ونحن لا نقبل فريقنا إلا 11+1، الواحد هو نحن جميعاً عشاق جنون الساحرة، وهكذا نكون.
نرتدي قمصان فرقنا ونتلمّس وجوه لاعبينا من خلف شاشة صغيرة تحلّقنا حولها كأطفال يهيمون بدمية تتحرّك، كل منا يفتح ذراعيه لها متأملاً أنها اختارته دون سواه، وأن هذا هو عيده.. ما من أحد إلا وحلمُه يكبر مع اقتراب موعد لقائه بفريق تعلّق به قلبه، ورسم من خلاله شكل فرحته، تعوّدنا أن نكون كل الفرق العالمية، البرازيل والأرجنتين وإسبانيا وإيطاليا (فاجأتنا بعدم تأهّلها هذه المرّة)، وغيرها، لأننا كنا دائماً، نحن العرب، غير حاضرين، في المراحل النهائية، أو كنا نمرّ سريعاً. أما وقد جاءت الفرصة لنحفر عميقا في ذاكرتنا، وذاكرة الشعوب، أننا هنا باقون، نكتب قصّة جديدة من جنون الساحرة لأول مرة بلغةٍ عربية، وعلى ملعب بأرض عربية، فهذه حكاية الحكاية "ثلاثون يوماً إلا ليلة"، تستعيد فيها شهرزاد العرب سرد قصة المونديال الذي صام طويلاً عنا، فربما كان فيه بعض ما كنّا نأمل منه، فيتبدّد يأسنا، كما بدّدت قطر باستضافتها له توهمات الغرب عن عجز الدول العربية عن فتح ذراعيها لرعاية أنشطة دولية واستضافتها، من أعلى مستوياتها وأهمها وأكثرها حضوراً ومتعة وإمتاعاً.