جودت سعيد .. اللاعنف في الربيع العربي
شغل المفكر السوري الإسلامي، جودت سعيد، حيزا كبيرا من النقاش والحضورين، الفكري والثقافي، عقودا طويلة، وخصوصا في صفوف المثقفين الإسلاميين والمحاضن التربوية الإسلامية التي تلقى بعض روادها أفكار الرجل بنوعٍ من التبخيس والازدراء، وخصوصا في ما يتعلق برؤية اللاعنف التي بذل سعيد نفسه لها منظّرا وكاتبا ومحاضرا عقودا طويلة.
تلقى كثيرون من شباب الحركات الإسلامية أفكار جودت سعيد بنوع من القبول الذي لم يكن متسقا مع بعض المراجع الفكرية الحاضرة في مناهج هذه الجماعات والحركات ومحاضنها، لكن أفكار الرجل حضرت وبقوة منذ ما بعد أحداث 11 سبتمبر (2001)، وفرضت وجودها خطابا أكثر اتزانا وسلاما واتساقا مع رسالة السلام التي تُعلي منها القيم والمفاهيم الإسلامية الدعوية كـ "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"، ففي ذروة الخطاب المتشدّد الذي ساهم الغرب، بسياساته المتغطرسة تجاه العالم الإسلامي، بإشاعته وتشجيعه، والدفع نحوه ليسهل تمرير خططه واستراتيجياته التي أثبتت الأيام فشلها وعقمها، كما رأينا الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد أكثر من عشرين عاما من الحرب ومطاردة الأشباح في أفغانستان، في تلك الذروة، كان ثمّة خطاب آخر مختلف تماما، يتزعمه الأستاذ جودت سعيد، يرى أن العنف والسلاح لن يصنعا السلام والحرية، بقدر ما يؤسّسان لدوامة الحروب وعسكرة الحياة كلها، حتى آخر لحظة في التاريخ.
التغيير السلمي، وإنْ لم يحقق أهدافه الآنية، يحفظ للمجتمع قنواته وطاقته التي ستظلّ تبحث عن ظرفيةٍ مناسبةٍ للتغيير والثورة بعيدا عن دوامات العنف
أصدر جودت سعيد كتابه الأهم، "مذهب ابن آدم الأول"، فكّك فيه قوله تعالى "لئن بسطتَ إليَّ يدكَ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلكَ، إني أخاف الله رب العالمين"، فمثل هذا الخطاب الذي غاب كثيرا في سياقات الخطاب الإسلامي العام وتضخم مقابله الخطاب الآخر، خطاب العنف والدم، الذي غذّى جماعات ومحطات دموية كثيرة في العالم الإسلامي، واستثمرت فيه أيضا الأنظمة الاستبدادية لتبرر لنفسها الإفراط في القمع والتنكيل لكل من يقول لا في وجه الظلم والفساد والاستبداد. لكن هذا الخطاب الذي كان يشتغل عليه جودت سعيد كان مبنيا على تصوّر كامل في ذهن الرجل، واشتغل عليه طويلا، من خلال سلسلة كتبه التي عُدّت مشروعا متكاملا، يكمل بعضه بعضا، من "حتى يغيروا ما بأنفسهم"، ومفهوم التغيير، و"اقرأ باسم ربك الذي خلق"، و"لا إكراه في الدين"، كل هذه السلسلة الفكرية كانت ترتكز على مفهوم واحد في التغيير، وهو التغيير السلمي اللاعنفي، والذي ينبغي أن يكون طريقا وحيدا للإصلاح والتغيير.
وفي ذروة اليأس وبعد موجات طويلة من القمع والسجون والمنافي، التي ارتكبتها الأنظمة العربية المتعاقبة عقودا، ومع بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين، بدأ أول تنبؤات جودت سعيد بالتحقق، مع هبوب أصوات شباب الربيع العربي التي خرجت إلى الميادين والساحات والطرقات، مطالبةً بتغيير الواقع المزري الذي حل بالأوطان العربية، عقودا من التجريب من كل التيارات السياسية، بمختلف مدارسها وانتماءاتها، التي وصلت إلى السلطة بالانقلابات، ثم ارتكبت كل صنوف التنكيل والظلم والقمع بحقّ شعوبها، بعد أن كانت تشكو من ذلك القمع والظلم.
ما آلت إليه ثورات الربيع العربي، وانجرارها إلى العنف أثبت نجاعة ما دعا إليه جودت سعيد، وإن كان هناك من اختلف معه في ذلك
ما يُراد قوله هنا إن مدرسة جودت سعيد اليتيمة في هذه اللحظة العربية الفارقة، ونال صاحبَها كل ألوان التهميش والتبخيس من مختلف التيارات الإسلامية واليسارية والقومية، أثبتت قدرتها على التحقق، من خلال ما أحدثته ثورة الربيع العربي السلمية، التي استطاعت بسلميّتها إزاحة أنظمة كانت متحكّمة في المشهد. وبغض النظر عن مآلات ما بعد هذه الثورة التي لاقت كثيراً من الشيطنة والمؤامرات، إلا أن سلميّتها كانت الخيط الناظم لها، وعصاها السحرية.
وجد الرجل نفسه من أول يوم في قلب ثورة الربيع العربي، بأفكاره ومشروعه اللاعنفي، عدا عن حضوره العديد من فعاليات الثورة السورية، محاضرا ومتحدّثا ومرشدا. ومع ذلك، لاقى من الأذى الكثير، فقد حكى لي، في أحد لقاءاتي به، أنه ذات يوم كان متحدّثا في أحد تجمّعات شباب الثورة السورية في منطقته، وإذا بأصوات تعلو مشوّشةً على خطابه، فقال لهم حافظوا على سلمية ثورتكم حتى لا يختطفها العدميون، ويزجّونها في أتون عنفٍ يريده النظام ويصنعه على عينه، حتى يتسنّى له القضاء على ثورتكم بتجريدها من سلميّتها فينقضّ عليها عنفا.
يدرك الجميع اليوم أن عظمة الربيع العربي ليست في ما حققت ثوراته من أهداف، وإنما فيما أثبته للعالم كله، من مدنية وحضارية الشعوب العربية، وطاقتها الحضارية التغييرية الكبيرة التي تكتنزها في لاوعي أفرادها وثقافتها، الطاقة الخلاقة للفعل والتغيير، والتي تفتقر إليها مجتمعات كثيرة تدّعي اليوم الديمقراطية والمدنية والحضارية، وهي لا تقوى على أي حركةٍ احتجاجيةٍ مطلبية في مجتمعاتها، لهول الخراب الذي يحل أداةً للاحتجاج والرفض.
ومن هنا، كان جودت سعيد يقول إن العنف ليس وسيلة للتغيير، وإنما وسيلة لاستدامة العنف والظلم، فمن يأتي بالعنف سيرحل بالعنف وهكذا. وبالتالي، كان الأستاذ يدرك هذه الحقيقة جيدا، فكان شديد الرفض لها مطلقا، لمعرفته أن مثل هذه المقدّمات كفيلة بنتائج أشدّ عنفا وخرابا، فعكف الرجل طويلا في التأصيل والتنقيب عن سنن التغيير الأجدى والأصلح في حفظ سلامة المجتمعات وأمنها واستقرارها، بعيدا عن دوامة العنف التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
كان جودت سعيد وسيظل رمزاً لمدرسة اللاعنف في الفكر الإسلامي المعاصر، وأهم مفكّريها ومنظّريها
يعتقد بعضهم هنا أن أسلوباً كالذي اشتغل عليه جودت سعيد كان مثاليا وطوباويا، لا يمكن تحقيقه، ولكن ما آلت إليه ثورات الربيع العربي، وانجرارها إلى العنف أثبت نجاعة ما دعا إليه جودت سعيد، وإن كان هناك من اختلف معه في ذلك، لكن يبقى أن التغيير السلمي، وإنْ لم يحقق أهدافه الآنية، يحفظ للمجتمع قنواته وطاقته التي ستظلّ تبحث عن ظرفيةٍ مناسبةٍ للتغيير والثورة بعيدا عن دوامات العنف التي تفرغ هذه الطاقة في صراعٍ لا ينتهي.
كنت يوما في عام 2016 في حديث مع جودت سعيد في منزله في إسطنبول. وبينما نحن مستغرقان في النقاش، سألني عمّن استهدف الرئيس اليمني الأسبق، علي عبد الله صالح، في جامع النهدين في عام 2013. وكان هذا قبل أن تقتله مليشيات الحوثي في 2017، فقلت له إن هذا لا يزال لغزا، لم نستطع تفكيكه، فقال لكنّ صالح يستحق ما ناله. وضحكتُ وقلت له: هذا خروج عن منهجك المعهود في التغيير. .. ضحك وقال لي: المجرمون لا يتركون مجالا لخصومهم أن يقاتلوهم بالسلمية، لأنهم ينهزمون بالسلمية، فيبحثون عن العنف لينتصروا به على خصومهم السلميين.
ختاما، كان جودت سعيد وسيظل رمزا لمدرسة اللاعنف في الفكر الإسلامي المعاصر، وأهم مفكّريها ومنظّريها، الذين قدّموا رؤية متكاملة، عن نسق هذه المدرسة التي نحن في أمسّ الحاجة إليها في عالمنا الإسلامي الذي تتنازعه مشاريع شتى، للعنف والعنف المضاد. كما أن مدرسته هذه بحاجة ماسّة للاشتغال على أفكارها وإبرازها للأجيال الصاعدة، لمواجهة كل هذا العنف والانحطاط السياسي الذي تعيشه منطقتنا وعالم اليوم ككل.
رحم الله الأستاذ جودت سعيد وأسكنه فسيح جناته.