جورج طرابيشي أم إسماعيل كاداريه؟
أخبرَت هنرييت عبّودي قرّاء كتابٍ لها (ومعَها) عن زوجها جورج طرابيشي أنه كان "يتألّم" (بتعبيرِها) من اسمِه، وكثيراً ما أبدى ضيقَه به، وكان يسأل عن سبب "ابتلائه" (بتعبيرِه) باسم جدّه هذا، ويقول "لماذا لم أُدعَ سمير أو جلال أو فائز، أسوةً ببقيّة إخوتي. لأني الإبن الأكبر خُتم عليّ أن أضمن استمرارية هذا الاسم، لكأننا أسرة ملكية!". وتفيد الكاتبة بأنه "طفح كيلُها" مرّةً من "تبرّم" (بتعبيريْها) زوجها الفيلسوف والمفكّر المحترم (من صفاتٍ يستحقّها)، وجادلَته في هذا، وكتَبت أن "ألمَه" من اسمِه "كان مبالغاً به"، وإنْ ترى أن "أزمَته" (بتعبير سائِلها تركي الدخيل) مع اسمِه المسيحي "مبرّرةٌ إلى حدّ ما مع الأسف، لأن هناك ناساً تعتبر أن المسيحيَّ ليس مواطناً مائة بالمائة، علما أن سورية من أفضل الدول العربية من هذه الناحية. أؤكّد نيابة عنه أن تصرّفات الآخرين تُزعجه، لكني لم أفهم لماذا كان يشعُر بالإنزعاج في داخله". وتقول هنرييت عبودي: "قد تواجه مشكلاتٍ لأنك مسيحي. ولكن لا توجد ضرورة للتألّم من الاسم الذي تحمله إلى هذا الحدّ. حسناً، أنا اسمي جورج، وأنا مسيحيٌّ من سورية، أليس لدي حقّ؟ ممكن أن أواجه هذا كتحدٍّ، وليس كألم".
إنها رواقيّةٌ في جورج طرابيشي كانت تجعلُه على نفورِه ذاك من اسمِه، فلم يكن يريدُ أن يتعيّن في فضائه العام مسيحيّاً، فيجرى التعاملُ معه بهذا المُقتضى، ولا موقف لديه من مسيحيّته، أو من المسيحيّة عموماً. والموضوعُ، بعيداً عن صحٍّ أو غلط، وفي الأول والأخير، شعورٌ فردانيٌّ شخصيٌّ ذاتيٌّ محض، توطّن شخصاً منشغلاً بالفكر والتفكير. وقد عرّف صاحبُنا نفسَه، في جدالٍ مع معلّم له في المدرسة، "مسيحيّاً بالولادة". وبذلك، قد تُحيل غلواؤُه (إذا جازت المفردة)، كما تحدّثت عنها زوجتُه، إلى حرصِه على ألا يُعدَّ، في أفهام من على شاكلة ذلك المعلّم، مختلفاً في سياقٍ عامٍّ متشابه. وفي هذا علوٌّ ورفعةٌ في شخص جورج طرابيشي. على غير ما كان عليه الروائي الألباني إسماعيل كاداريه، الذي عرّفتنا واحدةٌ من استعاداتٍ انكتَبت عنه في الصحافة الثقافية، بعد الإعلان الاثنين الماضي عن وفاتِه عن 88 عاماً، أنه كان يكرَه اسمَه لأنه عربيٌّ، ويحيلُ إلى ثقافةٍ إسلاميةٍ عربية، وإنْ لم يجهر بهذا صراحةً، غير أن نفاقه الرخيص للغرب وموقفه غير الودود (المُعادي؟) لانتساب بلدِه إلى العالم الإسلامي يسوّغان هذا سبباً. لقد حدّثَ كاتباً وسياسياً ألبانيّاً، بن بلوشي، أن اسمَه "يوحي بالرّطوبة". وهنا أغبطُه على خيالِه هذا، وعلى "أدبيّة" المجاز في هذا النعت (الطريف واللئيم؟). وقد بلغ به نفُورُه من اسمِه أنه أصدر عدّة رواياتٍ له في بلدِه بغير اسمِه الكامل، كاداريه فقط. وقد ذكَرت صديقةٌ له إنه أحبّ لو أن اسمَه "روديان"، اسم البطل السارد في روايته "الظل" (أظنّها لم تُترجم إلى العربية)، والتي بدَت طعناً في الديكتاتورية في ألبانيا الشيوعية في موازاةٍ مع احتفاءٍ بأنوار باريس وانفتاحها. باريس التي أقام فيها (إسماعيل) كاداريه منذ 1990 إلى وفاته، وواصل فيها إبداعاتِه الروائية، الثقيلة القيمة عن حقّ، ونال عنها عدّة جوائز، واستحقّ بها أن يظلّ مرشّحاً عتيداً لجائزة نوبل، وقد أوهمته انتهازيّتُه أنّ ما ظنّها استحقاقاتٍ قدّمها، في هجائه المتأخّر الشيوعيّة والشموليّة في بلده، وفي أحاديثه وكتاباتِه ضد "الأصوليّة الإسلاميّة"، ستُضاعف فرصَه في إحراز الجائزة الكونية. وليست منسيةً زياراتُه إسرائيل التي منحته "جائزة أورشليم"، وتقريظَه "نضالها" (وألبانيا معها!) "من أجل البقاء في محيط كريه".
يتّسق ضيقُ جورج طرابيشي من اسمه مع نزاهته الفكرية وعروبيّته الديمقراطية المناهضة للطائفيات والمنحازة للعقل وحرية التفكير، من دون أن يدفع أي فواتير لباريس التي أقام في أخريات حياتِه وتوفي فيها. ويتّسق ضيقُ إسماعيل كاداريه من اسمِه مع حربائيّته ونفعيّته في مسألة الديمقراطية، ومن مناهضته المسلمين (والإسلام؟)، وشيءٍ من العنصرية تجاه العرب، مع فواتير تزلُّفٍ دفعها في باريس التي أقام في أخريات حياته وتوفّي فيها.
علاقتُنا بأسمائنا مبحثٌ طويل، وكاشفٌ كما في إجابات صنع الله إبراهيم بالإيجاب على كثيرين سألوه عما إذا كان قبطياً، وقد أوحى لهم اسمُه بهذا، فيما هو مسلم. وهي مبحثٌ وعرٌ ربما، كما في محكيّتي إسماعيل كاداريه وجورج طرابيشي أعلاه.