جوليا سيبوتيندي تبدّد بعض الأوهام
نجمة الأسبوع الفلسطيني الطويل كانت من دون شك جوليا سيبوتيندي (70 عاماً)، القاضية الأوغندية التي أذهلت العالم بتفرّدها في التصويت ضد التدابير المؤقّتة الستة التي أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل بتنفيذها، حمايةً للفلسطينيين في غزّة من إبادة جماعية. بات معروفاً أنّ حتى القاضي الإسرائيلي أهارون باراك أيّد تدبيرين اثنين (توصيل المساعدات إلى غزة، ووقف التحريض العلني على العنف ومحاسبة من يرتكبه)، بينما ابنة العالم الثالث البارّة رفضتهما إلى جانب أربعة أوامر أخرى نصّت على تجنُّب القتل والاعتداء والتدمير بحقّ سكّان غزّة وضمان توفير الاحتياجات الإنسانية الملحة لهم بشكلٍ فوريٍّ، أي بالمُختصر، رفضت قاضيتنا إلزام إسرائيل بمنع ارتكاب جميع الأفعال التي تتألف منها مجتمعة عائلة الإبادة الجماعية.
أسباب الذهول أمام موقف القاضية الأوغندية عديدة، تتصدّرها صعوبة فهم كيف يمكن لبني آدم سويّ أن يصوّت ضد قرارات تحمي شعباً من القتل وضد إدخال الغذاء والدواء لهؤلاء الناس، وضد منع ارتكاب إبادة جماعية؟
من شأن التفكير بقصة جوليا سيبوتيندي أن يبطل مجموعة أحكام رومانسية مسبقة نهوى التعاطي معها زوراً على أنها حقائق، بينما غالباً ما تكون مجرّد أوهام عالمثالثية. من بين تلك الأوهام ما يتعلق بتصوّرنا المطلق للمواقف السياسية ــ الأخلاقية ــ الإنسانية المفترضة لسيدة سوداء البشرة من أحد بلدان جنوب الجنوب مثل أوغندا، أحد أفقر بلدان العالم وأكثرها بؤساً، متحدرة من طبقة متواضعة اجتماعياً ومن أسرة قليلة الإمكانات المادية وقد عايشت وهي طفلة ثم مراهقة نضال شعبها لنيل استقلاله عن المستعمر البريطاني وبناء دولته الوطنية كتلك التي ينشدها الفلسطينيون. حزمة المواصفات هذه توحي بخلاصاتٍ مسبقةٍ حاسمة ترجّح بلا تردد أن تكون صاحبتها شديدة الحساسية تجاه قضية كفلسطين، إحدى آخر قضايا الاستعمار بوجهيه القبيحين: الاستيطان الإحلالي والعنصرية التي لا بد من أن السيدة سيبوتيندي عانت منها. لكن الافتراض سقط ومعه الوهم.
خرافة ثانية تبددها سيبوتيندي وترتبط بواقع أنها حصّلت تعليمها المدرسي والجامعي في القانون داخل بلدها، قبل أن تغادر متأخرة، وهي في الـ36 من العمر إلى اسكتلندا لتحصّل درجة الماستر في القانون ثم الدكتوراه من جامعة إدنبره المرموقة عن 45 عاماً. إذاً، كان احتكاكها بالغرب حيث نبالغ في تصوّر مدى تحكّم الرواية الإسرائيلية في مفاصله معدوماً قبل بلوغها عامها الـ36، وهو ما يفترض، خطأً أيضاً، أنها مشبعة بثقافة محلية قائمة على إرث مناهض للظلم الاستعماري. وهْم ثالث تجد جذوره في حقيقة أن سيبوتيندي أول سيدة أفريقية تشغل منصب قاضية في محكمة العدل الدولية (منذ 2012). من يكتفي بهذه الحقيقة البسيطة ليتوقع متسرعاً أن السيدة ستكون حتماً علامة فارقة لا لشيء إلا لكونها سيدة، ينسى أن مارغريت تاتشر كانت سيدة أيضاً.
أكثر ما ظل مرتبطاً باسم سيبوتيندي وبسيرتها قاضيةً قبل دعوى الإبادة الجماعية الجنوب أفريقية ضد إسرائيل، هو ما فُهم تعاطفاً منها مع الطاغية الليبيري تشارلز تايلور الذي قضت محكمة دولية خاصة تأسّست لمحاسبته عام 2011، بسجنه 50 عاماً في 11 قضية، تتراوح ما بين الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإرهاب والاغتصاب وتجنيد الأطفال للقتال. كانت سيبوتيندي إحدى القضاة الثلاثة آنذاك، وحين رفضت هيئة المحكمة الخاصة تسلم مرافعة مكتوبة من فريق الدفاع البريطاني عن تايلور بعد صدور الحكم بحقه، انسحب محامو الديكتاتور من المحكمة، فقرّر زميلا سيبوتيندي محاسبة هؤلاء بتهمة تحقير هيئة المحكمة إن لم يعتذروا عن انسحابهم، وهو ما حالت سيبوتيندي دون حصوله عندما قاطعت الجلسات. حادثة أخرى ترتبط باسمها وتستحق بحثاً إضافياً قبل الحكم عليها: حكومتها لا تزال حاقدة عليها منذ صوّتت كقاضية في محكمة العدل الدولية قبل عامين ضد بلدها أوغندا في النزاع مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، وأيدت أن يدفع بلدها 325 مليون دولار تعويضات للكونغو عن مرحلة النزاع الدموي بين عامي 1998 و2003. هكذا تبدو السيدة متخصّصة في التصويت أينما حلّت بشكل يجعلها مصدر جدل دائم.
ربما آن الأوان للاقتناع بأن تكون أفريقياً أو عربياً أو مسلماً أو عالمثالثياً، رجلاً أو سيدة، لا يكفي لتوقّع مواقف أخلاقية منك من قضية كفلسطين. جوليا سيبوتيندي تؤكّد المؤكد لمن ينسى أن "أشرس" المتضامنين مع فلسطين يقيمون ويتظاهرون وينشطون ويناضلون في الغرب الذي نلعنه صبحاً ومساءً.