حاشية بشأن "أيام الماعز"
عندما يُخبرك تقديمٌ في أولى صفحات أيّ روايةٍ أنها مستوحاةٌ من قصةٍ حقيقية، فإن سؤالاً سيصير عن مقادير المتخيّل فيها، المضفّر مع الحقيقي، وعن مساحات الإبداعيِّ فيها التي تُنجيها من سمْتٍ توثيقيٍّ وتسجيلي، فالرواية، في المبتدأ والخبر، عملٌ إبداعيٌّ له استحقاقاتُه الجمالية والفنيّة، سيما إذا كان الحديث عن روايةٍ ذات سويّة. وهذا الضجيج الراهن، والذي يُصاحب مشاهدات عالية للفيلم الهندي "حياة الماعز" على "نتفليكس"، أخذَنا إلى قراءة الرواية التي انبنى عليها، "أيام الماعز" لكاتبها بنيامين (هكذا فقط!)، والصادرة باللغة المالايالامية (في الهند) في 2008، وتتابعت لها 150 طبعة في بلدها، وتُرجمت إلى عدة لغات، منها العربية في طبعاتٍ ثلاث، أولاها في 2014 (آفاق للنشر والتوزيع، الكويت)، ونقلها عن الإنكليزية سهيل الوافي. وستُذكِّر الشهرة الحادثة أخيراً للفيلم، بسبب موضوعته المتعلقة باضطهادٍ مريعٍ ارتكبه كفيلٌ سعودي في حقّ عاملٍ هنديٍّ لديه، في النصف الأول من التسعينيات، كثيرين بهذه الرواية التي صدرت بالعربية في الكويت التي تأخُذ، كغيرها من دول الخليج، بنظام الكفيل.
لمّا كانت "أيام الماعز" مستوحاةً من قصة العامل الهندي الذي يأخذ في النص اسم "نجيب"، فإن ذاك السؤال عن مساحات المتخيّل فيها تسوّغُه حاجة النصّ الأدبي إلى لغته الخاصة، لا لغة الذي يسرُد للكاتب قصته. ولنا أن نقول، وإنْ باحتراسٍ، تسوّغه الحاجةُ إلى الاستعاريّ والمجازي، وإلى المفارقات والإيحاءات. وبالتالي: إلى أي مدىً كان بنيامين وفيّاً لمرويّات العامل الهندي؟. لمّا أعطى الكاتب هذا العامل سلطة الحكي بضمير المتكلم، فإنه جعل نفسَه لسان هذا الشخص المستضعَف، ومنحه لغته الأدبية، التي تضج، حقا، بتعبيراتٍ حارّةٍ عن حواشي النفس ودواخلها في أثناء عذابات هذا العامل/ الراوي في أثناء مُقامه في صحراء غير معلومة الجهات يدير شؤون الأغنام، وفي ظروف استعبادٍ وتجويعٍ وقتلٍ لآدميّته فظيعة. ويُجاز القول هنا إن الحرارة العالية في النصّ الذي ينطقه "نجيب"، وقد كتبه بنيامين، هي من قريحة الأخير، وليست مما كان في وُسع العامل أن يقولََه تماما، وإنْ تنهض على حكيِه وآلامه، وعلى عموم التجربة الشنيعة التي كابدها. وقد استطاعت هذه اللغة، في مجرىً من القصّ كلاسيكي، تخلّلته استعاداتٌ كان الراوي يستلّها من ماضيه في بلده، مع زوجته (غادرها وهي حامل... هل هي حاجة الرواية إلى الميلودراما أم أنها حاملٌ حقّا؟)، استطاعت أن تأخذ القارئ إلى هجير الصحراء ولظاها، وإلى برْدها، في السنوات الثلاث (وأربعة أشهر) التي "خُطِف" إليها "نجيب".
ليس صنيعُ بنيامين فريداً في نوعِه، أي مجالسة شخصٍ غالب أهوالاً في تجربةٍ بالغة المأساوية، ثم بثّها في روايةٍ (قد تصبح فيلماً فيما بعد)، فقد أنجز المغربي، الطاهر بنجلون، روايته، عالية المستوى، "تلك العتمة الباهرة" (صدرَت بالفرنسية في العام 2000، وبالعربية في 2002)، بعد جلساتِه مع المعتقل السابق في سجن تامزمامرت الرهيب في المغرب، عزيز بنين، الذي حدّثه عن 18 عاماً في عذابٍ إنسانيٍّ فوق المتصوّر، ثم كتب روايته التي أرادها روايةً وحسب، بشروطِه كاتب أدبٍ، لا سارد حكايةٍ سمعها من صاحبها. ثم اختلف اثناهما، وتنازعا وساقا ضدّ بعضِهما اتهاماتٍ معلنة. كما نشر الكندي يان مارتل روايته "حياة باي" في 2001، المستوحاة من بقاء صديقٍ هنديٍّ له حيّاً في قاربٍ في المحيط الهندي وجد نفسَه فيه نحو تسعة شهور، مع نمرٍ. والبيّن أن مقادير ليست هيّنةً من الخيال أخذت الحقيقيَّ إلى المتعة التي يستشعرُها مُشاهد الفيلم الذي "استُوحي" من الرواية.
كان "نجيب" إنساناً ماعزاً عن حقّ، كما سمّى نفسه غير مرّة، وهو يقولُ لنا ما يقولُه (بلغة الكاتب). كان وصّافاً لكل شيء، للصحراء الي كانت "مقلاةً ضحمة"، وللسحالي والحرباء الطائرة فيها، ولغروب الشمس، وللروائح التي كانت تحوطُه، والكفيل السعودي (ثمّة ما يوحي في نهاية الرواية أنه خطَف "نجيب" وليس كفيله الحقيقي)، ولقبه الأرباب، "انطلقت" منه الرائحة النتنة في أولى الصفحات. سرَد عن "النتانة" التي "استوطنت" جسَده، وعن التيوس التي لا يُسمح لها أن تكون فحولاً. كتب رسالة إلى زوجته، لم تُرسل، عن استمتاعه بالنسيم العليل، وزيادة وزنه، وعن أكلِه يوميا ألواناُ من الطعام، وتلقّيه من "الأرباب" هدايا يومية، وعن الغرفة الواسعة الجميلة التي يقيم فيها... طوى نجيب رسالتًه، ثم بكى، ثم لم يُطلع أحداً عن حاله البائس، إلا نحن قرّاء روايةٍ عنه، التقليديُّ فيها أنها انتهت النهاية الحقيقية السعيدة، والجميل أن التباس الحقيقيّ بالمتخيّل فيها ليس في المقدور انكشافُه.