حتى لا تكون زيارة بايدن سياحة يابانية
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
يتندّر الأوروبيون على السياح اليابانيين بأن سياحتهم مارثون سريع لالتقاط الصور أمام المعالم الأوروبية، فبدلا من إعطاء المعالم الحضارية الجمالية في أوروبا حقّها ووقتها، تنتهي زيارتها الخاطفة بالتقاط الصور أمامها. وكان خيرا لهم وأوفر بنظر الساخرين أن يصطنعوا الصور على برامج الفوتوشوب، وهو ما ينطبق، إلى حد كبير، على زيارة الرئيس الأميركي بايدن المنطقة الأسبوع الجاري، فهو يكرّر سياسة أوباما في النأي عن المنطقة التي تشكّل سوقا خاسرة لا يمكن الاستثمار بها، وهي تختلف قليلا عن سياسة ترامب الذي قدّم دعما فجا لإسرائيل والمستبدّين. هنا يحاول بايدن أن يميز بينه وبين ترامب، فهو لا يحتفل بالاستيطان، ولا يزدري محمود عباس، يقدّم المواعظ السياسية التقليدية عن حل الدولتين وتجنّب التصعيد وصرف رشاوى لسلطة عباس والتقاط الصور معه. وبخصوص الاستبداد، يقدّم مواعظه المتعلقة بانتهاك حقوق الإنسان، مع ملاحظة بسيطة أن من يطبّع ويلتحق بالقافلة الإبراهيمية يغفر له ما تقدّم من انتهاكات وما تأخّر.
حاول بايدن في مقاله في "واشنطن بوست" أن يعطي زيارته مغزىً أكبر من التقاط الصور، وانتهى بعد الحديث عن "اتجاهاتٍ واعدة، يمكن للولايات المتحدة تعزيزها بطريقةٍ لا تستطيع أي دولةٍ أخرى تعزيزها". بالتأكيد، الإنجاز الذي يحافظ عليه هو الانسحاب من "المهام القتالية" في المنطقة "خلال رحلتي، سأفكّر في ملايين الأميركيين الذين خدموا في المنطقة، بمن في ذلك ابني بو، و7054 الذين لقوا حتفهم في الصراعات في الشرق الأوسط وأفغانستان منذ 11 سبتمبر 2001".
ربما كان الأفضل الاكتفاء بالتقاط الصور، من دون الافتخار بمكافأة إسرائيل على جرائمها، وليس آخرها قتل المواطنة الأميركية، مراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة. يفتخر بايدن بأنه "أول رئيس يطير من إسرائيل إلى جدّة بالمملكة العربية السعودية. سيكون هذا السفر أيضًا رمزًا صغيرًا للعلاقات الناشئة والخطوات نحو التطبيع بين إسرائيل والعالم العربي، والتي تعمل إدارتي على تعميقها وتوسيعها. في جدّة، سوف يجتمع القادة من جميع أنحاء المنطقة، للإشارة إلى إمكانية وجود شرق أوسط أكثر استقرارًا وتكاملاً، حيث تلعب الولايات المتحدة دورًا قياديًا حيويًا". لا يذكر، في مقاله الذي يفرد فيه فقراتٍ لاغتيال جمال خاشقجي، اسم شيرين، ناهيك عن مئات الفلسطينيين الذين قتلوا في الحرب أخيرا. لا أوهام تتعلق بتغير جوهري في السياسة الأميركية في المنطقة، ولكن يمكن أن يكون للزيارة معنى من خلال الالتزام بحقوق الإنسان معيارا للعلاقات، ليس مع العالم العربي فقط، وإنما أيضا مع الحليف الأوثق إسرائيل.
كثيرا ما يخضع حلفاء أميركا لضغوطها في موضوع حقوق الإنسان، وأكثر ما اتّضح هذا في حقبة بوش الابن التي شهدت مصر وقتها أفضل انتخابات في عهد الدكتاتور المخلوع حسني مبارك، وأقل انتهاكات لحقوق الإنسان.
ويظل الدعم لإسرائيل، وإن كان أقلّ من فجاجة من حقبة ترامب يشكّل تهديدا ليس لأمن المنطقة وحدها، بل للتذكير هو تهديد لأمن أميركا القومي، كما كشفت وثيقة للوكالات الاستخبارية الأميركية نشرها موقع إنترسبت الأميركي صدرت عام 2020، بينما كان ترامب آنذاك مشغولاً بترويج الاتفاقات الإبراهيمية. تحذّر الوثيقة التي عبرت عن إجماع وكالات الاستخبارات بوضوح من "أن الاتفاقية، بعيدًا عن السلام، زادت من خطر الإرهاب". وتوضح الوثيقة أن "من المرجّح جدًا أن تفاقم مظالم الإرهابيين طويلة الأمد بسبب تطبيع إسرائيل العلاقات مع دولتين خليجيتين"، مستشهدةً بمثال إطلاق النار الجماعي الذي قام به ضابط عسكري سعودي في قاعدة جوية أميركية في بينساكولا - فلوريدا في عام 2019. وتكشف الوثيقة أن إطلاق النار كان "بدافع من قرار إدارة ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس". وحذّر الموقع من سعي بايدن إلى تطبيع إسرائيل مع السعودية "موطن مكّة، أقدس موقع في الإسلام"، إضافة إلى ثقلها السكاني من خلال تقديم الاتفاقات الإبراهيمية اتفاقية سلام. لكنها أساسا "صفقة مالية تختار فيها إسرائيل وجيرانها الخليجيون الفوائد الاقتصادية والمخاوف الأمنية".
إمعانا في سياسة التقاط الصور، سيشارك بايدن، بحسب ما نقلت نيويورك تايمز عن مساعديه "اجتماع قمة افتراضيا مع زملائه قادة كتلة جديدة تسمى I2-U2، والتي تشمل إسرائيل والهند والإمارات والولايات المتحدة"، طبعا لك أن تتخيّل مدى التزام المتشدّد الهندوسي مودي بحقوق الإنسان. .. المفارقة إن إيران ستغيب عن التقاط الصور، ربما ينوب عنها رئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، الذي تباهى بايدن في مقاله بأنه وسيط بين إيران والسعودية. ربما كان في تقنية الفوتوشوب غنى عن كل هذا العناء، وما يشفع للزيارة مقارنتها بزيارة سيئ الذكر ترامب.
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.