حتى يكون الأردن قوياً منيعاً
إذا استعرنا العبارة التي وردت في رسالة العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، يوم الأربعاء الماضي، تعليقاً على "المخططات" التي كانت "تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد"، فإن "الفتنة وئدت". هذا ما يريده ويتمناه كل أردني. وكان الشارع الأردني صدم يوم السبت الماضي بإعلان السلطات اعتقال مسؤولين سابقين، في مقدمتهم رئيس الديوان الملكي الأسبق، والذي كان مقرّباً من الملك، باسم عوض الله، وأحد أعضاء العائلة المالكة غير المعروفين، الشريف حسن بن زيد، فضلاً عن آخرين من معاوني ولي العهد السابق، والأخ غير الشقيق للملك، الأمير حمزة بن الحسين. أما المفاجأة الأكبر فكانت في تلميحٍ إلى دور للأمير في "المؤامرة"، والطلب إليه من رئيس هيئة الأركان المشتركة، اللواء يوسف الحنيطي، التزام بيته. بل ووصل الأمر بنائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية، أيمن الصفدي، إلى اتهام الأمير بشكل صريح بأنه "أراد تقديم نفسه كحاكم بديل"، عبر "ركوب موجة" الأوضاع الاقتصادية الصعبة في المملكة، والتي ضاعفت جائحة كورونا من حدّتها.
بعيداً عن حديث المخططات لزعزعة استقرار الأردن، والتلميح إلى تورّط أطراف إقليمية فيها، والتي فسرها الشارع إشارة إلى إسرائيل، بالإضافة إلى السعودية والإمارات، اللتين يرتبط عوض الله بهما بشكل وثيق، وهو يحمل كما ابن زيد الجنسية السعودية، فما من شك أن الأردن مستهدف بشكل مباشر. وليس سراًّ القول إن مثلث تل أبيب – الرياض – أبو ظبي حانق على الأردن لأسباب عدة، من ذلك أن الرياض وأبو ظبي ينازعان عَمَّان رعاية الأماكن المقدسة في القدس المحتلة، في حين لا يخفي رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، استياءه من الأردن، ومن الملك شخصياً، بسبب تمسّكهما بمحدّدات تلك الرعاية ومقتضياتها، وهو لا يمانع (أي نتنياهو) إعطاء دور أكبر للسعودية والإمارات لمزاحمة المملكة في هذا الملف.
لا يعني ما سبق تأييداً لتلميحات مسؤولين أردنيين أن الأمير حمزة مرتبط، بشكل أو آخر، بأجندة إقليمية ضد الأردن، يفهم ضمناً أن باسم عوض الله وحسن بن زيد مُتَوَرِّطان فيها. حتى الرواية الرسمية الأردنية لا تقول ذلك صراحة، وسقف لائحة اتهاماتها بحقّه تتحدّث عن "أوهام" لدى الأمير بأن يدفع به الاحتقان الشعبي جرّاء الضائقة الاقتصادية والأزمات السياسية والاجتماعية في البلاد إلى تبوّء العرش. ولا أظن أحداً في السلطة أو خارجها يصدّق أن تغييراً في هرمية السلطة أمر في متناول اليد، لا عبر انقلاب، ولا ثورة شعبية، فثمّة إجماع في الأردن على مؤسسة العرش، والتي هي اختصاص حصري للأسرة الهاشمية، وللأردن ملك واحد هو عبد الله الثاني. وليس سيناريو الخلاف العلني، غير المسبوق، داخل الأسرة المالكة في مصلحة أحد. وبغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع كيفية إدارة ملف الأزمة، إلا أن حسم الملك لها، وتأكيد حرصه على وحدة الأسرة الهاشمية وتماسكها، و"رعايته" أخاه الأمير، بعد أن تعهد هذا الأخير بالوقوف وراءه، أمر مرحبٌ به، وذلك لقطع الطريق على متوسلي الفتن.
ثمّة خلل وقصور بَيِنٌ في أنماط الإدارة وهياكلها، وهو ما يضاعف من الأزمة
ثمَّة جملة من الأمور، لا بد أن ينتبه إليها صانع القرار في الأردن. أولاً، إن طريقة إدارة ملف الأمير حمزة، والتسريبات التي كَشَفَتْ عن بعض جوانبها، وما تبع ذلك من تصريحاتٍ لمسؤولين أردنيين، زعزعت أسساً كانت تعدّ خطوطاً حمراء في الماضي. لم يكن من الحكمة على الإطلاق السماح بالتطاول على أميرٍ من الأسرة المالكة من موظفين حكوميين أو صحافيين محسوبين على الحكومة وأجهزتها. وقد أحسن الملك بضبط المسألة ومعالجتها داخل الأسرة، خصوصاً وأنه، فيما يبدو، لا توجد أرضية لاتهام الأمير بتخابر أجنبي. ثانياً، صحيحٌ أن الأردن الرسمي يعتبر نفسه جزءاً من معسكر "الاعتدال العربي"، ولكن الحقيقة أن بعض أضلاع ذلك المعسكر لا تريد خيراً بالمملكة، وهي لا ترى فيها شريكاً، بل تريدها تابعاً، في محاولةٍ لاستغلال ضائقتها الاقتصادية لتمرير أجنداتٍ إقليميةٍ على حسابها. ثالثاً، بغض النظر عن اتهام بعضهم نوايا الأمير حمزة في حديثه عن الفساد والمحسوبية والترهل الإداري والأزمات الاقتصادية والاجتماعية وخنق الحريات في الأردن، إلا أن هذا لا ينسف أساس ملاحظاته، بل إن الملك نفسه تحدّث عن ذلك غير مرة.
يعاني الأردن، كما دول عربية أخرى كثيرة، من أزماتٍ هيكليةٍ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإدارياً، ولا بد من الاعتراف بذلك إن أردنا أن نعبُر ببلادنا إلى بر الأمان وتجنيبها خطر الانفجار. ومعلوم أن الأردن يستضيف ملايين اللاجئين الفلسطينيين والسوريين وغيرهم، وكثير من وعود الدعم العربي والدولي هي مجرّد "رَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ". البنية التحتية الأردنية مهترئة جرّاء ضعف الإمكانات، وليس سرّاً أن الأردن دولة فقيرة لناحية الثروات الطبيعية والمائية. والاقتصاد الأردني يعيش عملياً على أجهزة الإنعاش، وقد فاقمت الجائحة من كارثية الأوضاع. حسب تقرير صدر أخيرا عن البنك الدولي، سجل إجمالي الدين العام للأردن العام الماضي 47 ملياراً ونصف المليار دولار، ويتوقع أن يتخطى 50 مليار دولار نهاية العام الحالي. وبين التقرير أن نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي سيقفز، نهاية هذا العام، من 110.5% إلى 113.5%. أما نسبة البطالة التي فاقمتها جائحة كورونا، فهي تقترب من 25%، دع عنك البطالة المقنّعة، بمعنى هؤلاء الذين يعملون في وظائف لا تسد عَوَزَهم. وتوضح تقارير أخرى أن نصف سكان المملكة (10 ملايين) يعيشون تحت خط الفقر، إذا ما أخذنا بأن خط الفقر في الأردن يبلغ 68 دينارا (95 دولارا) للفرد شهرياً.
ثمّة إجماع في الأردن على مؤسسة العرش، والتي هي اختصاص حصري للأسرة الهاشمية، وللأردن ملك واحد هو عبد الله الثاني
ولا يقف الأمر عند حدود ضعف الإمكانات، إذ ثمّة خلل وقصور بَيِنٌ في أنماط الإدارة وهياكلها، وهو ما يضاعف من الأزمة. وكان العاهل الأردني نبه إلى ذلك، وانتقده بشدة، عندما تحدّث عن المحسوبيات وضعف الكفاءة الإدارية، بعد حادثة انقطاع الأوكسجين في مستشفى السلط، الشهر الماضي (مارس/ آذار)، مخلّفة سبعة قتلى. وإذا ما أضفنا إلى ذلك تراجع منسوب الحريات، وسيادة سياسات الكبت، والنكوص عن مكتسبات ديمقراطية كثيرة على مدى العقود الماضية، والمزاج الشعبي المتوتر بسبب جائحة كورونا، وفشل الحكومة في التصدّي الفعال لها، بسبب قلة الإمكانات والفساد وسوء الإدارة، فإن الأردن يكون يقف على أعتاب مرحلة خطيرة وحساسة.
باختصار، يتطلب التوصيف السابق تعاملاً حسّاساً وواعياً من الدولة الأردنية، وإطفاء أي حرائق وأزمات هامشية، وصياغة عقد اجتماعي جديد، في ظل مؤسسة العرش الضامنة للجميع، بحيث تطلق الحريات، ويعاد بناء المؤسّسات، ويحارب الفساد والمحسوبية، ويكون أساسا التنافس المواطنة والكفاءة فقط، ويعاد النظر في طبيعة ومدى بعض التحالفات الإقليمية والدولية، وتنويعها. هذه هي بعض إجراءات ستعزّز مكانة الأردن، إقليمياً ودولياً. إذا كانت الجبهة الداخلية متينة ومتماسكة، كان الأردن قوياً، عصياً على المؤامرات الخارجية. هذا ما ينشدُه ويرتجيه كل أردني يحب وطنه.