حتّى اللقاح من أدوات الحرب في غزّة
بعيداً من التطور الرهيب للأحداث في منطقتنا، الذي يضع شعوباً بكاملها في جحيم الترقّب والخوف، وانتظار ساعة الصفر، التي تهدّد هذه الشعوب المنهارة والدول الفاشلة العاجزة عن حماية حياة شعوبها، هناك أمورٌ تتخلّق في الظلّ، يمكن القول عنها إنّها "قاتل صامت"، تقتل المُستقبلَ، وقتلُ المستقبلِ يبدأ من اللحظة.
اللبنة الأساسية في بقاء أيّ مجموعة بشرية، أو أيّ شعب قادر على العيش والتطوّر، هو حماية الطفولة، التي تبدأ بالعناية الصحّية، ودعم الحياة كي تنمو بشكل طبيعي، لأنّ ما يمكن أن يقع من أمراض في هذه المرحلة من عمر الإنسان قد يَحكُم مستقبلَه بالكامل، في حال نجاته منها، وبدلاً من أن يعيش حياة سليمة، هي من حقّه، ويصبح فرداً منتجاً، ويستثمر طاقاته وإمكاناته في المستقبل، فإنّه سيصبح عبئاً على نفسه وعلى المجتمع. وبالتالي، ستكون حياة المجتمع مُتعثّرة. بينما في الواقع هناك أمور يمكن إصلاح التقصير فيها، في ما بعد، إذا توفّرت الإمكانات، مثل التعليم والتأهيل المهني، فالإنسان قادر على التعلّم في أي مرحلة من حياته، أمّا الإعاقات الدائمة فلا سبيل إلى إصلاحها.
قالت "يونيسف" إن أكثر من تسعة أشهر من الصراع تسبَّبت في تراجع مُعدَّلات التطعيم ضدّ شلل الأطفال من 99% إلى 89%
وبينما تسعى الدول المُتقدّمة إلى إطالة عمر الإنسان من شعوبها، وليس حمايته من الأمراض فحسب، نرى أن شعوب منطقتنا تعاني أجيالها الناشئة منذ طفولتها الباكرة، خاصّة في السنوات الماضية، بعد الحروب والأزمات التي تتفاقم يوماً بعد آخر، وأشدّها اليوم ما يحصل لأطفال غزّة، حيث يعيش سكّان القطاع منذ نحو عام في حالةِ حربٍ من أشرس (وأبشع) الحروب التي تشهدها البشرية. وبينما تحاصرنا مشاهد الدمار والقتل الجماعي، ورؤية الأطفال والكبار مًقطَّعِي الأوصال، أو ملفوفين بأكفان يُصلَّى عليهم بشكل جماعي، وتستبدّ بنا الشاشات والمواقع الإخبارية، والحَراك السياسي الذي لا يهدأ، ويجعلنا الإعلامُ في خوفٍ وهلعٍ من الغد، نرى أنّ هناك أموراً أشدّ خطورةً يستبطنها الواقع لهذا الغد الذي لا يأتي. إنّهم جيل المُستقبل في هذه البقعة المُنتهَكة من العالم.
قال المتحدّث باسم منظمة الصحة العالمية كريستيان ليندماير، في أواخر يوليو/ تمّوز: "من المرجّح جدّاً ظهور حالات إصابة بشلل الأطفال في قطاع غزّة، في ما قد يمثّل انتكاسةً للجهود الدولية للقضاء على المرض". وكانت وزارة الصحّة في غزّة قد أعلنت، في الفترة نفسها، أنّه عُثِر على عيّناتٍ لـ"فيروس" المرض في مياه الصرف الصحّي. ماذا يعني هذا؟... إنّه في منتهى البساطة المُوجِعة يعني أنّ شلل الأطفال بدأ يُكشِّر عن أنيابه، هذا المرض الخطير، الذي لا يترك من ينجو منه بلا إعاقة مدى الحياة، بذلت منظّمة الصحّة العالمية جهوداً كبيرة في سبيل السيطرة عليه في مستوى العالم، وتراجعت حالات الإصابة به بنسبة 99% منذ 1988، بفضل حملات التطعيم واسعة النطاق، المدعومة من منظّمة الصحّة العالمية للقضاء عليه مع بعض الأمراض التي تصيب الطفولة عموماً، فالتطعيم ضدّ بعض الأمراض الوبائية أو المُعدِية، التي تهدّد حياة الأطفال والمجتمعات، يعدّ من البرامج المُهمّة لدى المنظمّة، كالسلّ وشلل الأطفال والخنّاق والسُعال الديكي والكزاز والحصبة والتهاب الكبد المصلي. وكانت وزارات الصحّة في الدول هي التي تتولّى المُهمّة والمسؤولية، بتخصيص فرقٍ مدرَّبةٍ في هذا المجال، بالإضافة إلى العناية بالجانب التثقيفي من أجل نشر الوعي حول أهمّية اللقاح، والوصول إلى أكبر شريحة من المُستهدّفين، فمثلاً كان يتمّ التعاون في سورية، وهذا بالاستناد إلى ما خبرته في أثناء عملي طبيبةً في وزارة الصحّة السورية مع الجهات المُؤثّرة اجتماعياً، كالمدارس والنقابات والاتحادات، وخطباء وأئمة المساجد، أو رجال الدين في دور العبادة المسيحية، وغيرهم، من أجل رفع الوعي الصحّي وإطلاع الآباء والأمهات على أهمّية اللقاح في حماية صحّة أطفالهم.
في الشهر الماضي (يوليو)، قال المتحدّث باسم منظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (يونيسف)، جيمس إلدر: "إنّ أكثر من تسعة أشهر من الصراع تسبَّبت في تراجع مُعدَّلات التطعيم ضدّ شلل الأطفال من 99% إلى 89%"، وعبّر عن مخاوفه بشأن عدم وصول اللقاحات إلى الأشخاص الذين يحتاجون إليها، نظراً إلى القيود المفروضة على إدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع، مضيفاً أنّه "من الصعب توزيع اللقاح وسط النزوح الجماعي والبنية التحتية المُدمَّرة وبيئة العمل غير الآمنة على الإطلاق، وبالتالي، سيتعرّض أطفالٌ كثيرون لخطر الإصابة بالمرض". من دون أن نغفل أسباباً أخرى، من أهمّها استهداف الكادر الصحّي من الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب، وتراجع قدرة من تبقّوا يعملون في هذا القطاع المُهمّ، ضمن هذه الظروف، في استيعاب الحالات المُتدفِّقة بغزارة إلى المستشفيات والمراكز بسبب الحرب، ما يجعل الفِرَق الصحيّة غير قادرة على تأمين خدمات الرعاية الصحّية واللقاحات، عدا كثير من حديثي الولادة الذين فارق آباؤهم وأمهاتهم الحياة، وتفاصيل عديدة من الصعب إحصاؤها عن وضع الرضَّع والأطفال، في هذه الظروف الغادرة.
اللقاحات علم له تاريخ. كان التطعيم الأول ضدّ مرضٍ مُعدٍ هو التطعيم ضدّ جدري البقر، يعود الفضل في اكتشافه لطبيب الريف الإنكليزي إدوارد جينر (1749 - 1823). بعده، انطلق باحثون عديدون في علم الجراثيم والأحياء الدقيقة، مثل الطبيب روبرت كوخ (1843 - 1910)، والكيميائي لويس باستور (1822 - 1895)، في البحث عن لقاحات حيّة مشابهة، واستمرّت الجهود والدراسات والسعي إلى تقديم البرهان وإقناع العالم بأنّ اللقاحات يمكن أن تحمي من أمراض معدية كثيرة خطيرة. ولعلّ لقاح الجدري مثال مُهمّ، فبعدما يقرب من مائتي عام من المعركة ضدّ الجدري، لا يبقى مجال للشكّ في أنّ هناك علاقة سببية بين الاختفاء النهائي لهذا المرض في أوائل ثمانينيّات القرن العشرين، والتطعيم الشامل المستمرّ.
لقد تطوّر البحث في هذا المجال بشكل كبير في القرن العشرين، وتنوّعت أشكال اللقاحات وطرائق عملها، وفي القرن الحالي شهدنا السرعة الفائقة التي طوّرت بها عدّة فِرَقٍ بحثيةٍ لقاحاً ضدّ كوفيد – 19، الذي هدّد البشرية في العام 2020. فمن حقّ الشعوب كلّها الحصول على هذه اللقاحات من دون تمييز، لكن ما يحصل في غزّة، وفي المناطق الموّارة بالحروب والكوارث، كمخيمات اللجوء والنزوح في سورية، وفي اليمن، وفي السودان، ومناطق أخرى، يُعطِّل هذه الخدمة فائقة الضرورة.
شلل الأطفال، وغيره من أمراض، تُهدِّد بالانقضاض على أطفال غزّة، وهو هدفٌ ضمن استراتيجية إسرائيل لإعدام الوجود الفلسطيني
في غزّة اليوم، في واقعها الفاضح للضمير الإنساني، يعيش السكّان في ظروفٍ تفوق التصوّر، بل المُذهِل فيها كيف يبقى هناك أفراد قادرون على العيش! ويدفع الأطفال الثمن الأكبر، الأطفال خميرة الغد، إذ يعانون فيها من النتائج المباشرة للقصف والدمار، يعانون الجوع وانعدام الأمن الغذائي بالكامل، بالإضافة إلى الأمراض، فهناك حالات الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي (أ) والزحار الأميبي (الديزانتريا)، والإسهالات الناجمة عن تلوّث مياه الشرب، وأمراض أخرى بسبب عدم توفّر المياه وسبل الوقاية والعناية بالنظافة الشخصية، إذ تُعَدُّ غزّة من المناطق التي تعاني "الإجهاد المائي" بكثافة، لأسبابَ تضاف إلى أنها تنتمي إلى منطقة الشرق الأوسط الأكثر معاناة من شحّ المياه، فهي محكومة منذ ما قبل الحرب بالحصار وسيطرة إسرائيل على مصادر المياه، فيتعرض الفلسطينيون للتمييز في حصّة الفرد على العموم، وفي الحرب الحالية رأى العالم كلّه الظروف التي يعيشها أطفال غزّة. هذا بالإضافة إلى سوء التغذية وهبوط الحالة النفسية التي تُؤثّر في المناعة ضدّ الأمراض بشكل عام.
أطفال غزّة يعانون البرد والحرّ والجوع، والرضوض النفسية والجسدية، وبتر الأطراف والإعاقات بمختلف أشكالها، واليتم، وفقدان المعنى لكلّ شيء، والرضّع منهم، الذين ولدوا مع الحرب أو قبلها بأسابيع قليلة، غير مُحصَّنين ضدّ الأمراض. وبالتالي، فإنّ شلل الأطفال، وغيره من الأمراض التي يسعى العالم لأن يجعلها من الماضي، تُهدِّد بالانقضاض عليهم اليوم، وهذا واحد من الأهداف التي تسعى إليها إسرائيل بشكل خبيث وغير مُعلَن في استراتيجيتها، الماضية فيها بإصرار: إعدام الوجود الفلسطيني فوق أرض فلسطين التاريخية.