حدود فاعلية الدعوات الفردية إلى التظاهر في مصر
تبرز بين حين وآخر في المشهد السياسي المصري دعوات إلى التظاهر السياسي ضد ما يراه أصحابها تردياً أو تدهوراً سياسياً أو اقتصادياً أو أمنياً أو عسكرياً، وقد تكرّرت هذه الدعوات خلال السبع سنوات الماضية عشرات المرّات، ويقف خلفها في أحيان كثيرة ناشطون سياسيون أو ناشطون إعلاميون، وفي أحيان قليلة تقف خلفها شخصيات تظهر فجأة وتختفي كما ظهرت.
والمقصود هنا بالدعوات الفردية إلى التظاهر تلك التي لا تقف خلفها كيانات سياسية منظمة أو حركات سياسية أو قوى وجماعات دينية أو أحزاب أو جماعات ضغط، بشكل علني أو تعلن عن تبنّيها، كما حدث على سبيل المثال فيما سميت "جمعة الطوفان" 30 أغسطس/ آب 2013، والتي شاركت في الدعوة إليها قيادات من جماعة الإخوان المسلمين، أو ما عرف باسم "انتفاضة الشباب المسلم" 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014 والتي تبنتها الجبهة السلفية في مصر.
ومن نماذج الدعوات الفردية للتظاهر على سبيل المثال خلال السنوات الماضية، ما عُرف بثورة الغلابة 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، ومظاهرات سبتمبر/ ايلول 2019 وسبتمبر/ ايلول 2020 وصولاً إلى دعوات التظاهر في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، والتي تجد تفاعلاً لافتاً عبر شبكات التواصل الاجتماعي. وتتسم هذه الدعوات، من الناحية الظاهرية على الأقل، بعدم ارتباطها بقوى سياسية معروفة، بل إنه في بعض الحالات يكون الداعون إليها شخصيات ليس لها حضور سياسي أو إعلامي وازن، يمكن القول معه إنها قادرة على تحريك الشارع أو دفع المواطنين المصريين إلى التظاهر. وتكون هذه الدعوات مصحوبة بسيل واسع من الفيديوهات المضادّة للنظام والتي تكشف ما يقول عنه أصحابها إنها مؤشّرات على الفساد والاستبداد والقمع والقهر التي تمارسها وتتورط فيها أجهزة النظام وخاصة مؤسساته الأمنية والعسكرية.
ومع تعدّد الدعوات، وتكرارها ومحدودية مردودها من منظور الراغبين في التغيير، تثار إشكاليات عديدة بشأن الجدوى والفاعلية بل والمصداقية في بعض الأحيان، فمن ناحية أولى، نجد أن كثيرا من هذه الدعوات لا يجري الإعداد الجيد لها سواء على مستوى التنسيق السياسي أو الإعلامي، وترتبط بوجهة نظر أصحابها والداعين إليها، من دون مراعاة طبيعة الظروف الأمنية التي يعيش في ظلها المواطن المصري، ومن دون تجهيز البنية التحتية للحراك في الداخل، خصوصا أن معظم إن لم يكن جميع هذه الدعوات كانت من شخصيات في الخارج.
ومن ناحية ثانية، التركيز في الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعي، ومحدودية بل ندرة الوسائل المساعدة في الشارع المصري بما يتفق وخطط الحشد والتعبئة في الداخل، جعل منها محلاً للنقد، بل وأحياناً الاستهداف الممنهج من النظام وأذرعه الإعلامية.
ومن ناحية ثالثة، نرى أنه في أعقاب كل دعوة إلى التظاهر واستجابة الآلاف أو مئات لها، ويشاركون بالفعل في فعالياتها استجابة لأصحاب هذه الدعوات، واعتقاداً منهم بقدرتهم على الحشد، يتعرّض المشاركون لحملات مطاردة واعتقالات من الأجهزة الأمنية، وتطاول هذه المطاردات ليس فقط المشاركين ولكن أسرهم وعوائلهم.
الحديث عن انتظار اكتمال الشروط الكاملة للثورات هو حديث غير واقعي
ومن ناحية رابعة، ارتبط جانب مهم من هذه الدعوات، في مرحلة من المراحل، بوجود ما سماها بعضهم "صراعات أجنحة داخل النظام العسكري الحاكم في مصر"، وهو ما كان له انعكاساته على مستويين، الأول، اتجاه النظام إلى احتواء هذه الدعوات والواقفين خلفها عبر تقديم بعض التنازلات أو الترضيات والتسويات والمساومات الداخلية مع من يعتقد النظام أنهم يقفون خلف هذه الدعوات من الأجهزة الأمنية والعسكرية، عبر ترقياتٍ أو تخفيف قبضة أو توزيع مكاسب أو زيادة مكافآت أو توزيع حصص في شركات، أو إعادة شخصيات إلى مناصب مهمة داخل هذه الأجهزة.
الثاني، اتجاه تيار من المعارضين السياسيين إلى التشكيك في هذه الدعوات وأصحابها، والقول إنها موجّهة، وأصحابها مخترقون من أجنحة داخل أجهزة أمنية أو عسكرية، ما يفقد هذه الدعوات جزءا كبيراً من الزخم وبالتالي الدعم، خصوصاً مع توجّه بعضهم إلى القول إن من بين أهداف بعض الدعوات التي يتم وسمها أحياناً بـ "المشبوهة" هو الوقوف على المعارضين في الداخلين واختراق صفوف المعارضين في الخارج، والنيل منهم وتشويه صورتهم لدى الشعب.
ومن ناحية خامسة، ارتباط عدد من الدعوات إلى التظاهر بتسريبات صوتية أو مرئية لشخصيات نافذة داخل النظام يزيد من شكوك بعضهم بشأن الداعم الحقيقي الذي يقف خلف هذه الدعوات، وبالتالي النيل من الشخصيات الداعية وتشويه صورتها.
لا يمكن تجاهل أن الثورات الكبرى وحركات التغيير الرئيسة الحديثة والمعاصرة بدأت بدعوات فردية
ومن ناحية سادسة، أنه مع تكرار الدعوات، ومحدودية الاستجابة وضعفها من المواطنين رغم الظروف الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية الطاحنة التي تئن منها الأغلبية الصامتة في المجتمع المصري، دفعت جانباً مهماً من الناشطين السياسيين والإعلاميين إلى خفض سقف الرهانات عليها، بل وعدم المشاركة فيها، أو حتى مجرّد التطرق إليها في خطاباتهم السياسية أو الإعلامية، أو حتى عبر حساباتهم على شبكات التواصل الاجتماعي.
وأمام كل هذه الاعتبارات، وغيرها مما تجري إثارته مع كل دعوة إلى التظاهر، تأتي أهمية التأكيد على أن هذه الدعوات، رغم محدودية التأثير، إلا أنه في الأخير كان لها تأثير أياً كان حجمه سواء على مستوى كشف كثير من مظاهر الفساد والاستبداد التي تحكم المنظومة القائمة في مصر منذ 2013، كما أن هذه الدعوات، وبغض النظر عن حجم الاستجابة لها، فإنني أنظر إليها على أنها أشبه بالأحجار في المياه الراكدة أمام عجز القوى السياسية المنظّمة سواء كانت أحزابا أو جماعات أو حركات عن الفعل السياسي، وعدم دعوات للتظاهر أو الخروج ضد النظام خلال السنوات الثماني الأخيرة وتحديداً منذ آخر دعوة في 2014. كذلك تنتج هذه الدعوات حالة من الحراك السياسي، وتثير الهمم والنفوس عند بعضهم، حتى ولو كان ذلك عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يعني، في جانب منه، تعزيز روح الرفض والمعارضة للسياسات القائمة والمنظومة الحاكمة.
كما أن هذه الدعوات، وما تقوم به من دفع النظام إلى تبنّي بعض السياسات الاحتوائية التعديلية، حتى لو كانت لصالح تيارات داخل الأجهزة الأمنية والعسكرية، فهذا في ذاته رسائل للنظام أن الوضع غير مستقر، وأن الأمور ليست على ما يرام، وهو ما ينال بدرجات ما من منظومة استبداده.
إذا لم تكن قادراً على الفعل والحركة، فعلى الأقل لا تكن مصدر إحباط لمن يتحرّكون، وإن كان لك دور فليكن في تصويب المسار وتفعيل الحراك
أيضاً لا يمكن تجاهل أن الثورات الكبرى وحركات التغيير الرئيسة الحديثة والمعاصرة بدأت بدعوات فردية، وأن الأمر في جانب كبير منه يكون في إطار سياسة تراكم الغضب وتحريك الكبت الكامن في الصدور واكتساب مؤيدين وداعمين جدد في رحلة التحرر والنضال. وأن الحديث عن انتظار اكتمال الشروط الكاملة للثورات هو حديث غير واقعي لأن الثورات الشعبية والانتفاضات والاحتجاجات لا تعترف بمثل هذه الشروط، فالكثير منها كان أقرب إلى عود الثقاب الذي أشعل برميل البارود الكامن في العقول والصدور عبر الزمن.
لذلك لا ينبغي التقليل بأي حال من مثل هذه الدعوات، وتقييمها بمنظورات لا تتفق وسياقات تجارب سابقة، وتكرار أحاديث الأرض الممهدة والبيئة الجاهزة ، وإذا كان هناك من يرفض أو يتحفظ عليها مستنداً لمعايير الجدوى والفاعلية والمصداقية، فعليه أن يقدم البدائل الحقيقية الناجزة لتغيير سياسي فاعل، دون انتظار من يقوم بالتغيير، ودون استهداف أو تشويه من يدعون للتغيير، وأن يضبط كل طرف البوصلة ويحدد الهدف في كيفية التعاطي مع هذه الدعوات، مع الأخذ في الاعتبار كذلك ملابسات وسياقات كل دعوة، ودلالاتها من حيث الزمان والمكان والداعين إليها.
والخلاصة إذا لم تكن قادراً على الفعل والحركة، فعلى الأقل لا تكن مصدر إحباط لمن يتحرّكون، وإن كان لك دور فليكن في تصويب المسار وتفعيل الحراك.