حرب السودان وديمومة الحروب في العالم العربي
ليست حرب الجنرالات التي اندلعت في منتصف الشهر الماضي (إبريل/ نيسان) في السودان الحرب الأهلية الأولى التي يعرفها السودان، فقد كانت الأولى (1955 - 1972) والثانية (1983 - 2005) وحرب دارفور (2003) واستقلال جنوب السودان (2011) والنزاع في جنوب كردفان والنيل الأزرق (2011 - 2020) والثورة السودانية (2018 - 2019). ولهذا لا يمكن فصل حرب الجنرالات الحالية عن مسيرة تلك الحروب الأهلية والوقائع في السودان. ولعل ما يميز الحرب الحالية في السودان أن فاعليْن يتزعمانها، الفريق أول عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان، وهو عسكري تدرّج في المؤسسة العسكرية، والفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهو عسكري من خارج المؤسّسة العسكرية، بل هو زعيم مليشيا قوية اجتمعت مصالحها مع مصالح من حكموا السودان عقودا.
ولا يمكن كذلك فصل حرب "الجنرالات" الحالية في السودان عن ديمومة الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة في العالم العربي منذ استقلال دول عربية عديدة، فمنذ ستينيات القرن الماضي، عرف اليمن الشمالي حربا أهلية بين 1962 - 1970، كما عرف اليمن حربا أهلية جديدة سنة 1994، ثم دخل منذ 2014 في حرب أهلية مفتوحة. وعرف لبنان حربا أهلية بين 1975 - 1990. وعرف العراق كذلك حربين أهليتين (2006 - 2009) و(2014 - 2017)، من دون أن ننسى حرب الخليج الأولى مع إيران بين 1980 و1988، وحرب الخليج الثانية بين 1990 و1991 وعملية عاصفة الصحراء وحرب الخليج الثالثة أو الغزو الأميركي (مارس/ آذار 2003 حتى ديسمبر/ كانون الأول 2011). وشهدت الجزائر مطلع تسعينيات القرن الماضي العشرية السوداء بين 1991 - 2002، واتسعت رقعة الاضطرابات والحروب الأهلية في المنطقة العربية مع بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، لتشمل سورية منذ 2011، وليبيا منذ 2014، وتضاف الحرب الأهلية في الصومال.
لم يعد الجيش والشرطة يكفلان الأمن والنظام العام، فقد أضعفتهما فصائل متنافسة
ما هي المبرّرات الموضوعية التي مهدت لنشوب الحروب الأهلية المتتالية والمستمرة في البلدان العربية وجديدها أخيرا الحرب الأهلية في السودان؟ يرتبط إشعال الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة في دول عربية عديدة، بالدرجة الأولى، بعدم اكتمال مشروع بناء الدولة الوطنية، بل يمكن الحديث، في بعض الحالات، عن فشل مشروع بناء الدولة ودولة المؤسّسات، فالدول التي عرفت حروبا أهلية أثبتت هشاشتها المؤسّساتية، فبعد عقود من الاستقلال، لم تعد الدولة مكانًا تمارس فيه السلطة، بل أصبحت ساحة نزاع. ولعل ما سرّع في إضعاف الدولة ومؤسّساتها توسّع نفوذ الانتماءات والهويات والمصالح، لتستغل جهات عديدة غير حكومية هذا الوضع لملء الفراغ وبسط نفوذها. يضاف إلى ذلك عجز مختلف المؤسّسات المجتمعية والحزبية والنقابية في المجتمع عن ترسيخ سيادة الدولة، حيث لا يستطيع مجتمع مجزّأ بسبب انتماءاته البدائية تعزيز مصالحه المشتركة، أو تكوين روابط أفقية للتضامن، لينتج عن هذا الوضع بروز دول هشّة ومشلولة، أو دول الحد الأدنى.
في ظل هذا الشلل والهشاشة، لم يعد الجيش والشرطة يكفلان الأمن والنظام العام، فقد أضعفتهما فصائل متنافسة، سرعان ما ارتبطت بمنظماتٍ غير قانونية. وهذا ما حدث في الحرب الأهلية اللبنانية، ويحدث الآن في الحروب الأهلية في اليمن وليبيا والسودان. ولعل من بين أخطر انعكاسات هذه الأوضاع شراسة العنف ضد المدنيين المستوحى من مختلف الانتماءات لردع الخصم.
فتح الأبواب أمام التدخّلات الخارجية جزءٌ من ملامح الإفلاس المؤسّساتي
وتمثل الدول العربية نظرا إلى موقعها الاستراتيجي وتعدّد ثرواتها منطقة الفرص. لهذا كانت دوما محطّة نفوذ وتدخلات أجنبية متواصلة ومتعدّدة، فبعد النفوذ العثماني الذي دام إلى 1922، أصبح جزء كبير من الإمبراطورية العثمانية في المنطقة العربية تحت السيطرة البريطانية أو الفرنسية. ومع أعقاب الحرب العالمية الثانية، وإنهاء الاستعمار في الدول العربية تغيرت خريطة التدخل الخارجي، لتبدأ ملامح جديدة للتوترات الإقليمية في ظل القومية العربية، وبروز الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لاعبين جديدين في المنطقة. ومع نهاية سبعينيات القرن الماضي، تغيّرت خريطة التدخل الأجنبي، لتتجاوز منطق الحرب الباردة، ليبرز فاعلون جدد من الخارج، كإيران وإسرائيل وبعض الدول العربية. ومنذ بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة، تزامنا مع ما سمّي الربيع العربي، اتسعت خريطة التدخلات الأجنبية في دول عديدة، خصوصا التي عرفت بداية نزاعات مسلحة، لتجمع تلك التدخلات بين قوة أجنبية قديمة وجديدة، بعيدة وقريبة، عدوة وصديقة، لتصبح مواطن الحروب الأهلية في المنطقة العربية، خصوصا في سورية واليمن وليبيا والسودان مناطق صراع، تعدّدت فيها هويات التدخلات الأجنبية، تدخلات عطلت وما زالت تعطّل إراديا بروز ملامح حل للحروب الأهلية، بل إنها تساهم في إعادة تركيبها دوما كما هي الحال في السودان وتمديد الفوضى ومرحلة الفراغ السياسي، ليبرز جليا أن التدخلات الخارجية، مهما كانت طبيعتها أو مصدرها، ليست الحل.
وهنا يجب الإشارة إلى أن فتح الأبواب أمام التدخّلات الخارجية جزءٌ من ملامح الإفلاس المؤسساتي، وذلك لعجز الدولة عن إدارة مشكلاتها ونزاعاتها الداخلية بذاتها، فالاعتماد المتزايد على التدخلات الخارجية ليس أفضل الحلول ولا أنسبها. ولعل ما يشهد على عدم جدوى التدخلات الأجنبية مساهمتها في تمديد عمر الحروب، فحل الحرب الأهلية في لبنان التي عرفت تدخل أطراف مختلفة لم يأت إلا بعد 15 عاما من الاقتتال. أما في اليمن وسورية وليبيا والسودان، فقد عرفت الحروب الأهلية تدخّل أطراف بعيدة وقريبة، فلم تبرُز بوادر الانفراج السياسي بعد مرور أكثر من عشر سنوات من انطلاقة الحرب الأهلية في هذه البلدان، لتطول بذلك معاناة المدنيين.
لا يمكن الاكتفاء في تبرير نشوب وديمومة الحروب الأهلية في البلدان العربية ببعض التبريرات السطحية
الحروب الأهلية في البلدان العربية، بما فيها السودان، هي نتاج لفشل مشروع بناء الدولة، فشل تضاعف من خلال الاستنجاد المستمر بالآخر، لتصبح هذه الدول مواطن صراع وتنافس مفتوحة بين قوى خارجية عديدة، بعيدة وقريبة. لهذا لا يمكن الاكتفاء في تبرير نشوب وديمومة الحروب الأهلية في البلدان العربية ببعض التبريرات السطحية، بل يجب تجاوزها من أجل الفهم الصحيح لهذه المعضلات العربية من أجل تفادي خسائر مستقبلية قي العالم العربي، خصوصا إذا علمنا أن الحروب الأهلية في المنطقة العربية أسفرت عن وفاة أكثر من مليون ونصف مليون مواطن عربي، وتهجير الملايين وبروز أزمات إنسانية ومجاعات مختلفة وهدر لفرص تنموية متعدّدة، بل وحتى تقسيم دول وفقدان سيطرة دول أخرى على وحدتها الترابية. ولا يقتصر الاحتكام إلى لغة النار على الخسائر البشرية، بل إنه يهدّد وجود الدولة ومؤسّساتها والتوجه نحو ميلاد دولة فاشلة.
ليست ديمومة الحروب الأهلية وتعدّدها في المنطقة العربية حتمية تاريخية ولا قضاء وقدرا ولا موروثا تاريخيا، بل إنها إفرازات لنظم سياسية لم تعرف تجديد النخب السياسية، وتجديد المشروع الوطني، وتجديد طبيعة الفكر الاجتماعي والسياسي، وتحديث آليات الإدارة. هذا الجمود الذي سيرهن أكثر وأكثر مستقبل الأجيال المقبلة من العرب، إن لم يتم إحداث مراجعات موضوعية من أجل التخلص من آفة الحروب الأهلية التي تعدّ المنطقة العربية أولى منتجيها.