حرب المستشفيات... ثلاث رصاصات مرتدّة
بعد انقضاء الشهر الأول من العدوان الوحشي المتواصل على غزّة، اختطفت الحرب الجارية على مستشفيات القطاع المحاصر جل التغطيات الإخبارية، واستحوذت على مجمل الانفعالات العربية والفلسطينية، كما احتلّت موقع الصدارة من اهتمامات سائر المنظمات الدولية والهيئات الحقوقية وقادة الرأي العام، إلى الحدّ الذي كادت فيه عمليات القتل والتدمير والتهجير الجماعي في عموم الشريط الساحلي المكتظّ بالسكان أن تسقط من التداول الإعلامي، وتتحوّل إلى مجرّد حدث على هامش حرب المستشفيات، نظراً إلى شدة الحساسية التي تتمتع بها مثل هذه المواقع المحميّة بموجب القانون الدولي، وفظاظة الغُزاة، وحدّث ولا حرج عن فظاعة الصور المبثوثة من عين المكان.
بعينين مفتوحتين، جرّت دولة الاحتلال أقدامها الثقيلة إلى معركة بدت خاسرة قبل أن تبدأ، أو قل تزحلقت بعماء بصيرة إلى أكثر المواجهات العسكرية افتقارا للعدالة والشرعية والمشروعية على الإطلاق، كونها حرباً لم تجر ضدّ منشأة حربية أو مركز قيادة يستوجب كل هذا الإفراط في التوحّش والاستقواء بالأرتال المدرّعة. وفوق ذلك، هذا الاقتحام سابقة غير مسبوقة في أيّ من الحروب في العصر الحديث، بكل هذا الصلف وهذه القوة العارية، ضد مرضى وجرحى وأطفال خدج وأطبّاء وأعيان مدنية ذات صبغة إنسانية خالصة، الأمر الذي جرّد دولة الاحتلال من كل تعاطف غربي نالته غداة 7 أكتوبر، ومن مظلوميةٍ ادّعتها عقب ما حدث يومها في غلاف غزّة.
وأحسب أن هذا المظهر الناضح بالفاشية والهمجية، الناجم عن فقدان الصواب والعماء والرغبة في الانتقام، كان بمثابة الرصاصة الأولى المرتدّة من عملية اقتحام مستشفيات قطاع غزّة، لا سيما مجمّع الشفاء الطبي، الذي أراد الاحتلال العاجز عن تحقيق أهدافه المعلنة جعله عنواناً سياسياً قابلاً للأخذ عُنوة، ورمزاً سيادياً مُصادراً بالقوّة، وموضعاً لتحقيق مكسب طال انتظارها، وربما مكاناً ملائماً لالتقاط صورة نصرٍ يعزّي بها نفسه المثقلة بمشاعر العار والشنار، لا سيما بعد أن ازداد القلق الداخلي إزاء تفاقم الفشل وطول أمده في الميدان الغزّي الصغير بكل المعايير، خصوصا بعد أن كثرت الأسئلة، إن لم نقل الشكوك بمدى فاعلية الجيش الذي جرى قهره بالصوت والصورة.
وبقدر ما كان الدخول الاستعراضي لمبنى مجمّع الشفاء بذرائع واهية، ومزاعم ملفقة، كان خروج الاحتلال من المركز الطبي المستباح، وهو يجرّ أذيال الخيبة، صفر اليدين بلا صيد ثمين، بمثابة الرصاصة الثانية المرتدّة من هذه العملية الطائشة، لا سيما أن الإعلام العبري كان قد بالغ في تصوير مستشفى الشفاء مركزَ قيادة وسيطرة لقيادة المقاومة، وقال إن فيه، وفق مصادر استخبارية لا يرقى إليها شك، مخازن أسلحة وشبكة أنفاق وبعض الأسرى، الأمر الذي رفع درجة التوقّعات والرهانات لدى المستوطنين المتعطّشين لرؤية إنجاز عزّ تحقيقه، وزاد من حالة الترقّب في الأوساط الإعلامية، التي راحت تتابع الحدث باندهاش شديد، وتشفٍ كذلك، وهي تشاهد فشلاً استخبارياً آخر لجهاز أمن بات سيئ السمعة، منذ إخفاقه المدوّي يوم 7 أكتوبر.
أما الرصاصة المرتدة الثالثة فقد انطلقت من بيت النار في وجه أصحابها المجانين، عندما راح هؤلاء يفبركون الدلائل، وينشرون المزاعم عما عثروا عليه في قبو المستشفى، وسط حالةٍ من انعدام الثقة والسخرية من الرواية المتهافتة، سواء لدى المراسلين الأجانب الذين شكّكوا بصحة الشريط المصوّر، أو حتى لدى المعلقين في محطّات التلفزة الإسرائيلية، حيث ذهب بعضهم إلى عقد مقارنة بين هذه الأدلّة المزوّرة وحكاية أسلحة الدمار الشامل في العراق، فيما حذّر آخرون من زيادة درجة انكشاف دولة الاحتلال أمام الرأي العالمي، ومن استجرار ضغوط دولية إضافية، بدأت تتكاثر أخيراً، لوقف هذه العملية، التي لم تنجح في كسر المقاومة، أو في الإفراج عن الأسرى، كما تعالت الأصوات المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن تكرار هذا الفشل الاستخباري.
لقد تمكّنت الحرب ضد المستشفيات من سرقة أضواء كثيرة، ونجحت في حرف الأنظار، بعض الوقت، عما يجري من حرب إبادةٍ تُبثّ على الهواء على مدار الساعة منذ 44 يوماً، إلا أنها كانت أشدّ صفحات الحرب على غزّة سواداً، وأكثرها احتشاداً بالمواد الفيلمية والصور وشهادات الشهود، بل وأغناها مادّة موثقة لبناء لائحة حقوقية موثّقة بالأدلة الجُرمية، لجلب المجرمين أمام محكمة الجنايات الدولية، وإنهاء سياسة الإفلات من العقاب، التي أدمنت عليها دولة الاحتلال المارقة، وشجّعتها على مواصلة ارتكاب المجازر على مدى تاريخها.