حرب دينية في القدس بغير أقنعة
خطت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، في بحر الأسبوع الماضي، خطوة أخرى في تأجيج الحرب الدينية، وذلك بالتنكيل بالمعتكفين في المسجد الأقصى بتهمة اداء الصلاة في مسجدهم، وشمل التنكيل النساء اللواتي توافدن على المسجد من أنحاء الضفة الغربية المحتلة لأداء صلاة التراويح والاعتكاف، وهي سنةٌ دينيةٌ ووطنيةٌ، يتسابق كثيرون على الأخذ بها، بما يجعل من المسجد الأقصى بيتا دينيا وروحيا ووطنيا يؤمه الآلاف في شهر رمضان، ويصلون الليل بالنهار في تجمّعهم بباحات المسجد ومصليّاته.
وما شهده المسجد، منذ الثلاثاء الماضي، الرابع من إبريل/ نيسان الحالي والثالث عشر من رمضان، من شرطة الاحتلال المسعورة من تنكيل واعتقال للمئات لا يعدو أن يكون طورا جديدا في حربٍ دينيةٍ مسمومة، ترمي إلى كسر العلاقة بين الفلسطينيين وبيتهم الروحي، واستباحة هذا البيت بالأحذية والأسلحة وقنابل الغاز والعصي الكهربائية، بما يمثل تحدّيا جديدا على درجةٍ عاليةٍ من الصلف لكل ما تعارفت عليه البشرية من احترامٍ للعقائد وحرمة أماكن العبادة وحقّ المؤمنين في أداء شعائرهم في أماكنهم المقدّسة، علاوة على التحدّي المشهر في وجوه مليار مسلم. ولم يحتج الأمر هذه المرّة لاستخدام عصابات المستوطنين وممثلي الأحزاب الفاشية، إذ انبرت شرطة الاحتلال لأداء هذه المهمة القذرة نيابة عن وباسم كل ما هو عنصري ومتوحّش في المجتمع الإسرائيلي المغلق على هذياناته المحمومة ضد كل ما هو غير يهودي.
ديمقراطية الدولة العبرية لا تكتمل ولا تتجوهر إلا بالعنصرية ضد كل ما هو عربي وما هو غير يهودي على امتداد أرض فلسطين الانتدابية
وسوف يطول الوقت قبل أن ترتفع أصوات من بين عشرات الآلاف من المحتجّين الإسرائيليين، كي يحتج أصحابها على هذا الفصل الأسود من الحرب الدينية المسعورة. لقد ملأ أولئك المحتجّون شوارع تل أبيب ومدن أخرى في الأسابيع الماضية تنديدا بما سمّوه الانحراف نحو الديكتاتورية لدى حكومة نتنياهو الحالية، متغافلين عن أن جذر الديكتاتورية تكمن في إنكار وجود الشعب صاحب الأرض وسلبه جملة حقوقه تباعاً، وتجريع ذلك الشعب مختلف أصناف التنكيل والترويع، على قاعدة السعي إلى إبادة سياسية، وتصفية الوجود الوطني لشعب فلسطين. وذلك هو الوعي الشقي والمثلوم لليبرالية الإسرائيلية، إذ تنتظر أن تُزهر العنصرية أزاهير الديمقراطية والمساواة.
ولو أن ما جرى قد جرى في أي مكان آخر على يد عصبة دينية متزمتة ضد حقوق العبادة لمعتنقي أحد الأديان لحظي الحدث بإدانات أوسع ضد تأجيج الصراع الديني المقيت، وضد استخدام الدين وقودا للصراع وهدفا له، غير أن النفاق يكبل أصحابه، ويمنعهم أن يروا فصول هذه الحرب الجديدة ضد الروابط الدينية التي تجمع الرازحين تحت الاحتلال في أماكن عبادتهم ومقدّساتهم. ولنا أن نتخيّل أي ردّ فعل كان يمكن أن يصدر لو أن مكان عبادة يهودي قد تعرّض للانتهاك والاستباحة، ولو أن يهودا بالآلاف كانوا يؤدّون شعائرهم وجرى التنكيل بهم لهذا السبب، وعلى النحو الذي قامت به شرطة الاحتلال المدفوعة بمشاعر دينية هستيرية ضد المسلمين ومقدّساتهم.. فلا بد أن يقوم ما لا حصر لهم من الساسة ومن الفنانين والأكاديميين والرياضيين والإعلاميين بالتحذير من موجة جديدة وفظيعة من موجات معاداة السامية، علما أن فظائع شرطة الاحتلال لا تعدو أن تكون نسخة إسرائيلية من معاداة السامية، وبحق شعب سام هو شعب فلسطين الذي لم يفد من وراء البحار إلى أرضه فلسطين.
ما شهده المسجد الأقصى من شرطة الاحتلال المسعورة من تنكيل واعتقال للمئات لا يعدو أن يكون طوراً جديداً في حربٍ دينيةٍ مسمومة
ولا تخطئ العين المجرّدة ملاحظة أن هذه الموجة الكريهة من تسعير الحرب الدينية على المسلمين في القدس تتلاقى مع انبعاثات موجة اليمين الشعبوي المتطرّف الذي يغزو الحواضر الغربية، ويسمّم مناخ المدنية فيها مع فارق أن اليمين الإسرائيلي يباشر حربه المقيتة بدون أقنعة، وحيث تتكامل الأدوار بين المؤسسة الأمنية والحكومة والأحزاب والمنظّمات الدينية في شنّ هذه الحرب الصفيقة جهارا نهارا وعلى رؤوس الأشهاد، وتختفي خلال الحرب أصوات حرّاس الديمقراطية والعدالة من الإسرائيليين باستثناء شرائح نزيهة وضئيلة منهم، يوصمون بأنهم يمثلون يساراً خائناً، فيما تشهد المجتمعات الغربية حالة يقظة ورفض حيال المجموعات الشعبوية الإجرامية، إذ إن الديمقراطية والعنصرية لا تلتقيان ولا تختلطان، فيما ديمقراطية الدولة العبرية لا تكتمل ولا تتجوهر إلا بالعنصرية ضد كل ما هو عربي وما هو غير يهودي على امتداد أرض فلسطين الانتدابية. ولهذا، شاءت "الطلائع" الأشد فاشية في المجتمع والمؤسّسة الإسرائيلية أن يقترن بدء الاحتفال بعيد الفصح اليهودي هذه الأيام بالتنكيل بغير اليهود واستباحة أماكن عبادتهم، بما يعيد التذكير بفظائع القرون الوسطى ضد أتباع الدين الآخر والطائفة الأخرى والملة الأخرى. ومع ذلك، لا يتردّد نتنياهو عن التصريح تعقيبا على ما ارتكبته الشرطة التي تقودها حكومته بأن "إسرائيل ملتزمة بالحفاظ على حرية العبادة وحرية الوصول إلى جميع الأديان والوضع الراهن في الحرم القدسي، ولن تسمح للمتطرّفين العنيفين بتغييره"، فأين الغرابة في أن يندفع هذا الرجل إلى اقتراف هذه الصفاقة، بعدما ارتكبت شرطته ما ارتكبته من دناءة وحشية.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان أمام هذه الوقائع هو عن مستقبل هذه التطوّرات وما ستؤول إليه، فقد أتى هذا التصعيد الإجرامي على دفعات بعدما سمّيت تفاهمات العقبة وشرم الشيخ، والتي أريد منها في الأساس كبح التصعيد، غير أن حكومة نتنياهو استخدمت تلك التفاهمات لذرّ الرماد في العيون، وإطلاق موجة مسعورة من التصعيد. وفي سابقةٍ ليست الأولى من نوعها في السلوك الإسرائيلي التقليدي. والآن، فإن الأردن ومصر وفلسطين دعوا مجلس جامعة الدول العربية ومجلس الأمن إلى النظر في هذا التصعيد. وسبق أن تم اللجوء في مناسبات مماثلة للمحفلين العربي والدولي، وليس من الخطأ الاستعانة بهما، بل من أبسط الواجبات السياسية وألزمها الاستعانة بهما، غير أن ذلك لن يكفي، ولن يمثل استجابة ناجعة وتامة للتحدّي، فلسوف تصمد حكومة الاحتلال، بصلفها المعهود وخبراتها المتراكمة، أمام أي إدانات لفظية لسلوكها، ومن أي مصدر تأتي منه هذه الإدانات، ما دامت ردود الفعل هذه تبقى في إطار كلامي. والفيصل هو في البدء باتخاذ إجراءات سياسية ودبلوماسية مضادّة، من قبيل أن لكل فعل رد فعل، ومن أجل تدفيع عُتاة المجرمين ثمناً ما نظير التجاوز الوحشي للأعراف والقوانين، وسوى ذلك، الأمور ماضيةٌ نحو الأسوأ.