حرب غزّة والحروب والصراعات الموازية
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
بالتزامن مع الحرب الهمجية التي تخوضها حكومة نتنياهو المتطرّفة على المدنيين الفلسطينيين، ولا سيما الأطفال والنساء، في قطاع غزّة، وحملات التنكيل والاعتقال في الضفة الغربية، والتهديد بإمكانية توسيع رقعة الحرب على المستوى الإقليمي، هناك جملة حروب موازية، منها شبه علنية تتمظهر نتائجها في العمليات الخاصة والاغتيالات التي طاولت قادة في فصائل "محور المقاومة" في سورية ولبنان والعراق واليمن، وحتى في إيران، ومنها سياسية تتلخص في ممارسة الضغط في الغرف المغلقة عبر حوارات مباشرة، أو غير مباشرة، بين مختلف الأطراف المنخرطة، أصالة أو وكالة، في الفوضى العنيفة التي تشهدها المنطقة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، فهناك جهود أميركية دبلوماسية مكثفة تشمل تقنيات التهديد والترغيب، تهدف إلى منع توسيع نطاق العمليات العسكرية، وتلحّ على ضرورة المحافظة على قواعد الاشتباك المتّبعة.
ولعل الزيارات المكرّرة لوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بالإضافة إلى المسؤولين الأميركان الآخرين، إلى جانب اتصالات الرئيس جو بايدن نفسه مع زعماء في دول المنطقة، بل وزيارته لإسرائيل في الأيام الأولى التي أعقبت عملية طوفان الأقصى، وتأييده العدوان الإسرائيلي العنيف على غزّة، كل هذه الزيارات والاتصالات المعلنة، وعلى الأرجح هناك غير المعلن، تؤكّد عدم وجود رغبة أميركية حالياً تجاه منع اندفاع الأمور نحو مزيد من التصعيد، وخصوصا أن أميركا بدأت تستعد للانتخابات الرئاسية التي ستجري في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. ومن الواضح أن الجانب الأميركي يحاول، بشتى السبل، المحافظة على وضعية التفاهمات الضرورية، ولو في حدودها الدنيا، مع إيران لتجاوز عام الانتخابات بأقل الخضّات الممكنة، ولا سيما أن انتخابات هذا العام تشهد انقساماً حادّاً داخل المجتمع الأميركي، سواء ضمن أوساط مؤيدي كل حزب أم على صعيد التنافس الشديد بين المؤيدين لكل من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، والمراهنين على فوز هذا الحزب أو ذاك.
لم تعد خافية على أيّ متابع مهتم ماهية وحجم الانقسامات التي تخيّم على القوى المجتمعية والسياسية الإسرائيلية
وما يُستشفّ من المؤشرات المتوفرة، بخصوص الانتخابات الأميركية، أن المنافسة ستكون بين كل من بايدن وترامب. ولكل منهما نقاطه الضعيفة المتمثلة في التهم الموجّهة إليه، ومن جهة التشكيك في مدّة أهليتهما العامة للتعامل مع التحدّيات التي ستواجهها الولايات المتحدة في المرحلة القريبة المقبلة. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق الوضع الأوكراني، والنزاع مع الروس، والمنافسة الاقتصادية الشديدة مع الصين، وموضوع إجراء مراجعة شاملة لآفاق الحل في الشرق الأوسط بعدما تبنّى ترامب فكرة تطبيع العلاقات الثنائية بين إسرائيل والدول العربية عوضاً عن الحلّ الشامل، وإعلان الموافقة الأميركية على اعتبار المناطق المتنازع عليها جزءاً من الدولة الإسرائيلية، في تناقض صارخ مع قرار التقسيم نفسه عام 1947، ومع موضوع حلّ الدولتين، وقد توافق ذلك كله مع هوى اليمين الإسرائيلي، ولا سيّما المتطرّف الذي يبني شعبيّته، ويقدّم تصوّره لمستقبل إسرائيل بناء على الماضي المتخيَّل الذي يتجاهل الوجود الفلسطيني، ويعتقد أن الأموال قادرة على تطبيق الخطط التي تتجاهل المشاعر، ومن دون الأخذ بالاعتبار تزايد الحجم والوعي الفلسطينيين، إلى جانب تجاهل تنامي شعور الاعتزاز بالهوية الفلسطينية، خصوصا عند الأجيال الشابة، التي تتمسّك بتلك الهوية، وتبدي استعدادها للتضحية في سبيلها بمختلف الأشكال.
وفي الوقت ذاته، لم تعد خافية على أيّ متابع مهتم ماهية وحجم الانقسامات التي تخيّم على القوى المجتمعية والسياسية الإسرائيلية، بل ضمن الحكومة نفسها بين وزراء تحالف نتنياهو والجيش والمؤسّسات الأمنية. ويوحي ذلك كله بحدوث اضطرابات سياسية ستحدُث بعد انقشاع غبار المعارك، وارتفاع الأصوات المطالبة داخل المجتمع الإسرائيلي بالمساءلة والمحاسبة. وعلى الأرجح، ستكون هناك حالة مشابهة على الجانب الفلسطيني، رغم المشاعر العاطفية الجيّاشة التي تساهم اليوم في تأجيل إظهار تململ الناس ورغبتهم في مساءلة المقصّرين عبر انتخابات نزيهة شفافة تكون مدخلاً لاختيار قيادة فلسطينية جديدة وطنية جامعة قادرة على التعامل مع المهام المنتظرة المنسجمة مع المصالح الفلسطينية الوطنية. أما المصالح الخاصة لهذا الفريق أو ذاك، أو حتى لهذا الشخص أو ذاك، التي قد تتوافق مع توجّهات (وحسابات) هذا المحور أو ذاك، هذا التوجه الإقليمي أو ذاك، فهي لا ترتقي في جميع الأحوال إلى مستوى المطلوب الاستثنائي في مرحلة مفصلية لا تتحمّل التسويف أو التضليل عبر التلاعب بعبارات عامة، هلامية، تقول كل شيء ولا تقول شيئاً في الوقت نفسه.
حديث عن استشكافات جديدة لاحتياطيات جديدة من الغاز والنفط في المنطقة، وفي أماكن كانت تُعدّ سابقاً خالية من مكامن الطاقة
إلى جانب الحروب المكشوفة والمستترة التي تعيشها منطقتنا، ومناطق أخرى، هناك منافسة اقتصادية شديدة بين الصين والولايات المتحدة في التكنولوجيا المستقبلية، وميادين العمل والطاقة بمختلف أشكالها والتسويق، فهناك اليوم حديث عن استشكافات جديدة لاحتياطيات جديدة من الغاز والنفط في المنطقة، وفي أماكن كانت تُعدّ سابقاً خالية من مكامن الطاقة، ويُشار هنا إلى لبنان وفلسطين وإسرائيل وسورية وتركيا. هذا إلى جانب التنافس الصيني والهندي بشأن مهمة القيام بدور المصنع العالمي لإنتاج المنسوجات والألبسة الجاهزة والمنظفات إلى جانب الصناعات الإلكترونية الدقيقة وغيرها من تلك المنتوجات التي يمكن أن تنتجها الدولتان بتكاليف أقل، ولكنها تساهم في تلوّث البيئة، لذلك ترى الدول الغربية، بالدرجة الأولى، أن إنتاجها بعيدا عنها يكون أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية، وأقلّ ضررا بالنسبة إليها من ناحية البيئة. فالصين التي قامت بهذا الدور منذ عقود، وكانت تتهيأ لدور أكثر تقدّماً من خلال مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها في 2013، وتمكنت بالفعل من الامتداد عبر سياسة شراء العقارات والمواقع والشركات في أفريقيا وآسيا، وحتى في أوروربا وأميركا، فوجئت بوجود خطّة منافسة أعلن عنها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في اجتماع الهند لدول مجموعة العشرين (سبتمبر/ أيلول 2023)، تحت اسم مشروع "الممرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا"، الأمر الذي أربك الصين، ودفع بها نحو اعتماد خياراتٍ تصعيدية، ورفع لهجة التهديد بخصوص تايوان، كما فعلت سابقاً بخصوص هونغ كونغ، وليس من المستبعد أن تعود إلى الدفاتر القديمة من أجل كهربة الأجواء مع كوريا الجنوبية واليابان.
ورغم التوافق على إدارة الخلافات بين الجانبين الأميركي والصيني، ولا سيما في سان فرانسيسكو بين الرئيسين الأميركي جو بادين والصيني شي جين بينغ على هامش قمّة التعاون الاتقاصدي لدول آسيا والمحيط الهادي (نوفمبر/ تشرين الثاني 2023)، إلا أن التنافس الحادّ موجود، والقوى الداخلة فيه من الجانبين تمتلك إمكانات كبيرة من الموارد البشرية والمادّية والتكنولوجيا العصرية.
رسائل متبادلة بين الجانبين الإيراني والأميركي، عبر الوسطاء، الغرض منها قطع الطريق على التصعيد، والاكتفاء بواقع التصريحات النارية
ومن الواضح أن بوتين ينتظر، من ناحيته، تصاعد الاضطرابات والخلافات بين مختلف القوى الدولية والإقليمية التي يعتبرها من القوى غير الصديقة. وهو يراهن على عاملي الوقت والاستنزاف، هذا إلى جانب تداخل الحسابات، وارتفاع شعبية القوى اليمينية المتطرّفة في الدول الأوروبية، الغربية منها والشرقية. ولعلنا لا نذيع سراً إذا قلنا إنه في شوق إلى عودة ترامب رئيساً للبيت الأبيض، لعًله يكون ملهماً وسنداً للقوى العنصرية المتطرّفة التي يعتبرها بوتين جزءاً من طابوره المنتظر في الغرب، هذا رغم حرصه الظاهر على إبداء التعاطف مع الفلسطينيين في الحرب الإسرائيلية عليهم، كما أظهر تعاطفه الشعوبي مع المسلمين في أثناء عمليات حرق المصحف في السويد، وعدة دول أوروبية. مع معرفتنا جميعاً أن دخول قواته إلى سورية لم يكن له أن يتم لولا الموافقة الإسرائيلية، ولولا التفاهم الروسي الإسرائيلي على القواعد المطلوبة لحماية الحدود مع إسرائيل من أي منغّص راهن أو مستقبلي.
الحرب التي تجري في المنطقة هي بالوكالة، تنفذها الأذرع الإيرانية تحت شعار نصرة أهل غزّة، وهو كلام حقّ يراد به باطل. فما تقوم به مليشيات الحوثي من عمليات تهديد للملاحة الدولية في البحر الأحمر، وما تُقدم عليه قوات الحشد الشعبي (العراقي) في سورية من انتهاكات بحقّ السوريين المناهضين لحكم سلطة آل الأسد، إلى جانب تحكّم حزب الله بالقرار اللبناني، بعدما عطّل الدولة إلى إشعار آخر، يتم ذلك كله لمصلحة الحسابات الإيرانية التي يبدو أنها لم تكن هذه المرّة دقيقة تماماً، وهذا ربما ما يُستنتج من الضربة التي تلقّتها إيران في كرمان، حيث تعرّضت مجموعة كبيرة من المسؤولين الذين كانوا قد توجّهوا إلى قبر قاسم سليماني لإحياء الذكرى الرابعة لمقتله بفعل ضربة مسيّرة أميركية بناء على أمر من ترامب. ... وفي المقابل، هناك رسائل متبادلة بين الجانبين الإيراني والأميركي، عبر الوسطاء، الغرض منها قطع الطريق على التصعيد، والاكتفاء بواقع التصريحات النارية، والعمليات الاستعراضية الإبهارية التي لا تخرج عن نطاق دائرة رفع العتب، وذلك للاستهلاك المحلي.
هل ستستمرّ لعبة التصعيد على مستوى الأذرع التي يختبئ خلفها المنسق العام؟ وما هي الأهداف المتوخّاة في نهاية المطاف؟ هل ستتوافق دول المنطقة، في نهاية المطاف، على وضع حد لما جرى ويجري حفاظاً على الموارد البشرية والمادية؟ هل سيكون هناك تعاون إقليمي جاد لترسيخ وضع جديد في المنطقة أساسه الأمن والاستقرار، ومكافحة الفساد والآفات الناجمة عنه، مثل المخدّرات والتطرّف والإرهاب؟ سيفتح تحقيق كل ما تقدّم الطريق واسعاً أمام شبابنا وأجيالنا المقبلة نحو التعليم والعمل والإبداعات النوعية في مختلف الميادين، وعلى سائر المستويات.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.