حزب الله بين عقيدتي الضاحية والسنوار
إذا كان على حزب الله أن يختار استراتيجيةً في مواجهة "عقيدة الضاحية"، التي تبنّتها إسرائيل فعلياً في عدوانها الوحشي على قطاع غزّة، وفي سبيلها إلى تطبيق هذه العقيدة في عدوانها الحالي على لبنان، فليس ثمّة سوى "عقيدة السنوار" (إذا جاز الوصف)، وتقوم على المقاومة تحت الأرض وفوقها، حتّى آخر رصاصة، وبكلّ (وأيّ) سلاح توفّر، ومباغتة العدو بما يسلبه زمامَ المبادرة، بموازاة التعتيم الكامل على القادة الميدانيين، والتحرّك في مساحة من الغموض المُلغَّز في ما يتعلّق بأيّ مسار سياسي يواكب العمليات العسكرية.
غني عن القول إنّ الحزب لا يحتاج من ينصحه، فخبرته ومعرفته بإسرائيل هما الأكبر في المنطقة، لكنّ تردّده وحرصه على ما يعتبرها قواعدَ اشتباكٍ أوصلا كثيرين إلى استنتاجات تخالف ذلك، وأدّيا إلى تكبيده خسائرَ فادحة جدّاً قبيل أن يبدأ ردّه العسكري أخيراً، ومنها مئات من مقاتليه ممّن أُصيبوا في تفجيرات البيجر وأجهزة اللاسلكي، واستشهاد عدد من قادته العسكريين رفيعي المستوى، وبذلك نجحت إسرائيل منذ اللحظة الأولى بمباغتة الحزب، وهو لا يُحسَب لها، بل على الحزب الذي تلكّأ أكثر ممّا يجب في فهم الإشارات الإسرائيلية، وفي اتخاذ قرارٍ بتوسيع انخراطه في إسناد غزّة، وفي ظنّه ربّما أنّ ثمّة قواعد اشتباك تُحصّنه من خطط تستهدفه وجودياً هذه المرّة، وليس إضعافه عسكرياً.
يعود تلكّؤ الحزب (في ظنّ كاتب هذا المقال على الأقلّ)، إلى ارتباط الحزب بإيران، وارتهانه إلى استراتيجياتها في إدارة الصراع، بما يُجنّبها دخوله بشكل مباشر، ونجاحها في جرّ الحزب إلى "منطقتها هي"، بما يخالف دوره الأساسي في الصراع في "منطقته هو"، ما جعل طهران تسعى إلى توظيف الحزب لصالحها في مفاوضاتها غير المباشرة مع الولايات المتّحدة، وضبط ردّات فعله العسكرية (في منطقته)، بما يتساوق وهذه المفاوضات غير المباشرة (في منطقتها)، وذلك ما لا يتّسق مع ديناميات الصراع عسكرياً في غزّة ولبنان ومحيطهما العربي، وهي ديناميات كانت تذهب بالصراع نحو التصعيد العسكري، وتفترض من أطرافه المبادرةَ لا انتظار الضربات الأولى.
ما فعله يحيى السنوار (ولا نقصد الرجل بشخصه بل بما يمثّل)، أنّه ضرب العقيدة العسكرية الإسرائيلية منذ ديفيد بن غوريون في مقتل، بأن بادر وضرب، ونقل المعركة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، إلى أرض العدوّ، فكسر الركائز الثلاث التي تقوم عليها العقيدة العسكرية لإسرائيل، وهي الضربات الخاطفة، وعلى أرض العدو، على ألّا تطول الحرب فتتحوّل استنزافاً، وهذا ما تفعله حالياً في لبنان بسبب تلكّؤ حزب الله، وربّما انتظاره الضوءَ الأخضرَ من طهران.
في مُقابل عقيدة السنوار تتبنّى إسرائيلُ عقيدةَ الضاحية، وهي استراتيجية عسكرية نفّذتها في حرب لبنان الثانية عام 2006، وفي حروبها اللاحقة على قطاع غزّة، ويعتبر غادي آيزنكوت، عضو مجلس الحرب المستقيل، الأب الروحي لها، وقد بسطها بعد عامَين من حرب لبنان الثانية، وتقوم على عدم استهداف العدوّ، بل حاضنته كلّها، واللجوء إلى القوّة غير المتناسبة على الإطلاق في الردّ العسكري، وعدم التفريق بين العدوّ، في حالة حزب الله، والدولة، أيّ استهداف الجميع، فلا مدنيين في الحرب، ولا تمييزَ بين حركات مسلّحة غير منضوية في المؤسّسات الرسمية للدولة وجيش هذه الدولة، فكلّ بيت هو فخّ عسكري ومركز قيادة للعدوّ، وكلّ غزّي هو خالد مشعل (في حينه)، وكلّ لبناني هو حسن نصر الله.
عقيدة كهذه ليست نظريةً تُدرّس في الكليات العسكرية، بل تُنفَّذ. هل تذكرون مجزرة المستشفى المعمداني (17 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي)؟ ... فلا حصانة للمستشفيات ولا للمدارس ولا لدور العبادة ولا لمدني أو كبير أو طفل، وهو ما حدث حرفياً في حرب الإبادة، التي ما زالت تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة، وفي مواجهة عقيدة نازية كالتي أرساها ونظّر لها آيزنكوت، الذي تراجع عنها. فلا مناص لحزب الله، ونكرّر أنّه ليس في حاجة إلى نصيحةٍ أو مواعظَ، سوى اللجوء إلى عقيدة السنوار، وهي انتحارية كما نعلم، ومن جنس ما تقوم به إسرائيل نفسها، وإنْ كانت شروطها لا تتوفّر لدى المقاومة الغزّية، من حيث الإمكانيات على الأقلّ، بقدر ما تتوفّر لدى حزب الله، إذا شاء ورغب.