حزب الله يواجه إعادة تحرير ما حرّره عام 2000
يمعِن حزب الله في تذكيرنا بوقائعَ حصلت منذ 1500 سنة، ولكنّه ينسى ما حصل في آخر عقود وما قاله في أثنائها. ينسى أنّ ثمّة أراضي لبنانية ما زالت تحتلّها إسرائيل، وهي امتداد بلدة الغجر السورية الواقع في الأراضي اللبنانية، القرى السبع، وأكثرية سكّانها يحملون الجنسية اللبنانية (النبي يوشع، تربيخا، قدس، صلحا، هونين، المالكية، إبل القمح). ثمّ مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. والأولى بالذات (مزارع شبعا)، كانت موضع سجال وطني، لأنّ الحزب يحتمي بنيّة تحريرها للحفاظ على سلاحه، ويردّ عليه خصومه بأنّها ليست لبنانية، إنّما سورية، ولكنّ بشّار الأسد يرفض تصنيفها، تيسيراً لحُجّة الحزب.
هذا من حيث الواقع. أما في اللسان، فالحزب، قبل "طوفان الأقصى"، عبر خطابات حسن نصر الله بالذات، أسرف في طرح شعارات جارفة، تحوّلت مع الوقت أيقونيّةً، و"انتصاراته" المتتالية، التي سيطرت على عقول أبناء بيئته، أصبحت بديهية، ووصفه الدؤوب لإسرائيل بأنّها "أوهن من بيت العنكبوت"، وبأنّ في وسع الحزب النيْل منها، ومن حيفا "إلى ما بعد حيفا، وإلى ما بعد ما بعد حيفا". والاثنتان، أي الانتصارات والعنكبوت، لا يُحسبان أمام الشعارات التي شكّلت محور آخر عقود من حياتنا... كلّها أطلقها نصر الله، كرّرها مئات المرات، وصارت نجمة مشروعه. عن الأراضي اللبنانية المحتلّة، قال نصر الله: "أرض الغجر ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا لن تُترك للإسرائيلي، ويجب أن تعود إلى لبنان بلا قيد وبلا شرط، وتحريرها مسؤولية الدولة والشعب والمقاومة" (وهذا الثلاثي يحتمي به حزب الله في عملياته كلّها)، وشعارات عن القدس، عن فلسطين، لا يمكن إحصاء الشعارات التي تؤكّد كلّها اقتراب التحرير الكامل لفلسطين، والصلاة في القدس. قبل "الطوفان" بأشهر، تحدّث حسن نصر الله عن المعركة الكبرى التي يحضّر لها في المنطقة كلّها، وهي معركة تحرير فلسطين، مُؤكّداً أنّ القدرات والإمكانيات والتجهيزات كلّها أصبحت متوفّرة بانتظار ساعة الصفر. بل عن تجربة انخراطه، قبل سنوات، في قتال السوريين إنقاذاً لعرش الأسد، قال إنّ ذلك من أجل "تحرير" الجولان (بعد مطيّة "الدفاع عن مرقد زينب"، و"مقاتلة الإرهاب الإسلامي").
لم يمض يوم واحد من "الطوفان"، حتّى قرّر حزب الله خوض معركة مشاغلة إسرائيل، وبطلب واحد: وقف إطلاق النار على غزّة. لماذا اختار غزّة مثلاً ولم يطرح أنّه يخوض مع إسرائيل معركة أراضيه اللبنانية المحتلّة، التي وَعَدنا مراراً بتحريرها، وكانت واحدةً من أسس إبقائه على سلاحه؟... ربّما لأنّ اعتبارات إقليمية إيرانية فرضت ذلك، ولكنّ المهم أنّ المشاغلةَ لم تنقذ فلسطينياً واحداً في غزّة ولا في الضفّة الغربية، لم تمنع الإبادة، وطبعاً لم تكن في مستوى شعاراتها السابقة، خصوصاً أنّ البيت الإسرائيلي (العنكبوت الضعيف) تزعزع وجوده، وأصبح أضعف من بيت العنكبوت الضعيف، رغم جبروته. بل بهذه المشاغلة، يُعرّض حزب الله شريطاً جنوبياً بأكلمه للدمار الكامل، ويضع لبنان في فيلق الحرب الكبرى، لبنان بكل انهياراته وضعفه وتفكّك كيانه، تعزّزه الدعاية والأفلام والكلمات هنا وهناك، ثمّ ذاك الشريط المصوّر عن "النفق المدينة"، اسمه "عماد 4"، يعرضه الحزب باعتزاز، وقصده حشد جمهوره وإخافة إسرائيل.
لا شيء في الأفق، واللبنانيون كلّهم في ورطة وجودية حقيقية
ويكون اغتيال فؤاد شكر وإسماعيل هنيّة. وتهديدات وانتظارات وقلق، وكلام كبير يصدر من إيران، عن انتهاك أمنها، وأنّها لن تتراجع عن الردّ، معها بالطبع حزب الله، على النغمة نفسها. وبعد أقلّ من شهر، بعدما "تريّثت" إيران، وقلبت معادلتها الداخلية، بأنّها استعادت محمد جواد ظريف محاور الغرب إلى منصبه، وراضته بوجوه سنيّة شبابية، هي أيضاً، واجهة للغرب... بعد أقلّ من شهر إذن، ردّ حزب الله على اغتيال قائده بعملية قال حسن نصر الله إنّها أصابت أهدافها في عمق إسرائيل، وإنّه بذلك ردّ على إسرائيل، وقضي الأمر، وإنّ مطلبه منها هو وقف إطلاق النار على غزّة، وإنّ "محو الكيان من الوجود ليس هدفنا، ولكن هدفنا منعه من الانتصار". وما لفتَ في شرحه لهذا الردّ، كلمات خصّصها نصر الله للمواطن البسيط بالذات. بدا مثل طبيب أسنان يشجّع المريض على تحمّل الوجع. بعودته الى المشاغلة، طلب من هذا المواطن أنّ يُقلّل من حماسته لشعاراته القديمة، نصحه بالهدوء "يواش يواش" (على مهل)، أن يأخذ وقته، لا يستعجل تحرير فلسطين، وأبدى رغبةً بأن يرتاح: "خلّي الناس يريّحوا أعصابهم"، ثمّ أوصاه بالعودة إلى بيته: "من يُريد أن يرجع إلى بيته فليعُد إلى بيته".
أيُّ بيتٍ، سأل الجمع؟... الجواب في الكلمة نفسها. أي بما أنّنا عُدنا إلى قواعد الاشتباك (المشاغلة)، فهذا يعني أنّ الجنوب سيبقى تحت الضرب الإسرائيلي، فيما المعفى من هذا الضرب هو الضاحية الجنوبية لبيروت. خرقتها إسرائيل، ونالت جزاءها. إذاً، يبقى الجنوب العائد إلى قواعد اشتباك صافية من دون "خروقات" تُذكر.
قضي الرد بسلام، وردّ عليه بنيامين نتنياهو بالتشدّد. عكس ما كان يتوقّعه الحزب، أو يبدو كذلك. في آخر مفاوضاته، رفض نتنياهو الانسحاب من محور فيلادلفيا ومعبر رفح، رفض سحب قواته من غزّة، أصر على إبقاء محور نتساريم، ورفض الالتزام بوقف دائم للنار، حتّى بعد اتفاق وهدنة. أمّا الجنوب اللبناني، فسيكون الأرض الأمامية، الشريط الحدودي الجديد الذي بدأ يأخذ شكلاً وحجماً، في عمق ثلاثة إلى أربعة كيلومترات، يمتدّ الخراب والفراغ والنار، يصفه أحد الشهود القلائل بأنّ في كل ناحية من نواحيه ثمّة غزّة صغيرة، موزّعة هنا وهناك. بساتين وأحراج محروقة، موت الثروة الحيوانية بأكملها، تلوّث تربتها ومياهها بالفوسفور. وقبل كلّ شيء، مقتل 600 شخص، غالبيتهم من مقاتلي حزب الله، وجرح 2500 إنسان جنوبي، ومائة ألف مهجّر، نازح، لاجئ. أي بعد تحرير هذه القرى عام 2000، سيتوجب على حزب الله إعادة تحريرها ثانية.
شعارات عن القدس، عن فلسطين، لا يمكن إحصاء الشعارات الصادرة عن حزب الله، والتي تؤكّد كلّها اقتراب التحرير الكامل لفلسطين، والصلاة في القدس
وفي القرى العميقة، الأبعد عن الحدود، قُضِي على الاقتصاد والسكن والمدرسة. منذ يومين، كان أحد تجّار قرية ميس الجبل ينقل بضائع مخزنه إلى جهة أبعد، بيروت ربّما، وصورة الشاحنات التي كانت تحمّل فيها البضائع ضجّت بها مواقع التواصل، أثارت القلق والتوتّر لدى أهل القرية والقرى المجاورة. ليس فقط من الضرب الإسرائيلي، إنّما أيضاً من أنّ الصورة هي الشاهد على موت الحياة في الجنوب. حتّى متى؟... لا شيء في الأفق، واللبنانيون في ذلك كلّه، إنّهم في ورطة وجودية حقيقية.
فنان اللبنانيين الرؤيوي زياد الرحباني تنبّأ لهم، منذ عقدين ونصف العقد، في مسرحيته "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، بأنّهم إذا بقوا مصرّين على خزعبلاتهم وتَشاطُرهم وقلّة نزاهتهم، فسوف ينتهي بهم الأمر عودةً إلى العصر الحجري، يلبسون جلود الحيوانات، وهم حفاة، يمكسون بعصي، يمشون تائهين بحثاً عن مأوى وطعام، ويخجلون من وضعيتهم الجديدة أشدّ الخجل. "إعادة لبنان إلى العصر الحجري" هي من أدبيات نتنياهو في هذه الحرب. ليس من باب التنبؤ، بل التهويل. يُكرّرها على امتداد التهديدات المتبادلة بينه وبين حزب الله. ويتناغم معه خصومه وحلفاؤه. ويكون السؤال: هل تكون نهاية لبنان على يدنا، بحسب الرحباني؟ أم على يد نتنياهو، بحسب ما يتوعّد مراراً؟... ربّما الاثنين معاً.