حسيب كيّالي "تشيخوف سورية"
وجّه كاتب هذه السطور، في "العربي الجديد" (28/7/2024)، تحيّةً لذكرى الكاتب السوري الكبير أديب النحوي. وفي هذه الزاوية؛ أحاول رسم صورة مُختصَرة، موجزة، لكاتب سوري كبير آخر، حسيب كيّالي، الذي ولد في إدلب 1921، وتُوفِّيَ في 9 يوليو/ تمّوز 1993، ودفن في دبي.
مدينة حلب، ومنذ قديم الزمان، مُنتجَة للمُؤرّخين وللمُفكّرين وللأدباء. وعليه، ظهور كاتبٍ متميّزٍ كأديب النحوي أمرٌ مألوفٌ، ومتوقع. وأمّا ظهور كاتب كبير من طراز حسيب كيّالي في مدينة إدلب، أواسط الأربعينات، فكان مفاجئاً واستثنائياً، لأنّ إدلب حينئذٍ كانت قضاءً صغيراً فلّاحياً تابعاً لولاية حلب، ولم تشهد في تاريخها كلّه حركةً أدبيةً أو تنويريةً، ولم يُسجَّل في تاريخها ظهورُ كاتبٍ مُهمٍّ. زد على ذلك أنّه كانت لأُسرة الكيّالي، الكبيرة العريقة، صبغة دينية، يتوارث أحدُ فروعها منصب "المُفتي"، حتّى إنّ الشيخ أحمد زهدي الكيّالي، والد حسيب، كان مُفتياً، ولكنّه كان يمتلك شيئاً من الثقافة الدنيوية، أقرب إلى الرجال المتنورين. وربّما كان هذا مُفيداً لحسيب، وشقيقه الأكبر مواهب، فاستفادا من مكتبته العامرة، ومن الجانب الليبرالي في شخصيته، فقد شجّعهما على تلقّي العلم، وقراءة الأدب، وأعطى لشخصيتيهما حرّية الاعتقاد، حتّى ولو اختطّا اتجاهاً فكرياً مخالفاً لاتجاهه.
اكتسب حسيب كيّالي في بداياته لقب "تشيخوف سورية"، وهذا شائع في ثقافتنا، فنحن نُشبّه أيَّ كاتب أو فنان متألّق بشبيه له في ثقافات الغرب، فهذا نسمّيه موليير العرب، وذاك فولتير الشرق، وثمّة من لقّب الفنّان خالد تاجا "أنطوني كوين سورية". وفي الأحوال كلّها، تشبيه حسيب كيّالي بتشيخوف ليس بعيداً عن الحقيقة، فكلاهما يشتركان في استلهام روح الشعب، ورسم تفاصيل الحياة اليومية، واستخراج الجوهري والمُضحك من البيئة المحلّية، وإذا أنت قرأتَ مجموعَتَي حسيب كيّالي القصصيتَين المُبكِّرتَين؛ "مع الناس" و"أخبار من البلد"، فلا بدّ أن تقبل هذا الرأي. ويُذكر أنّ حسيب غادر إدلب وهو في سنّ الشباب إلى دمشق، ثمّ إلى باريس، ثمّ إلى دمشق، ثمّ إلى دبي سنة 1981، ومع ذلك، لم تَخْلُ قصّةٌ له، أو مقالةٌ، أو مسرحيةٌ، من أثرٍ لإدلب، أو من استفادةٍ من بيئتها الشعبية، حتّى إنّه، في آخر مجموعاته القصصية؛ "نعيمة زعفران" (1992)، كتب في مُقدِّمة إحدى القصص: "أخبار مدينتي إدلب، عندي، ما تزال طازجة"، ثمّ باشر بسرد قصَّته الساخرة "يَفتح وتعالَ يا سليم رَجِّعْ".
قد يساعد هذا الاتصال الدائم بإدلب، في بلاد الغربة الطويلة، في تفسير شخصية حسيب كيالي الأدبية، ولغته الفريدة، فقد أجرى مزاوجةً ناجحةً بين بيئتَين متباينتَين أساساً، الريف والمدينة، وممّا كتبه إليّ، أثناء المراسلات التي استمرّت بيننا من 1989 إلى 1993، أنّ المرء يقرأ كتابَ الاعتبار لأسامة بن مُنقذ بالعربية الفصيحة، ثم يتركه جانباً، فيتهيأ له أنّه كان يقرأ بالعامية، وكذلك الأمر عند الكاتب الكبير أبي عثمان الجاحظ، وهذا تجده في المعاصرين عند نجيب محفوظ. من هنا، نذهب إلى القول إنّ لغة حسيب كيّالي كانت فصيحةً، الجُمَلُ فيها صحيحةٌ لغوياً إلى درجة أنَّك تستطيع إعرابها، ولكن مضمونها أحاديث شعبية مُغرِقة في محلّيتها، وهنا يمكنني أن أضرب مثالاً من قصته "مجاهدون من بلدنا"، إذ يقول أحدُ أبطال القصّة: "فيها شيءٌ إذا الواحد قوى بسطارَه بمساميرَ من التي يحدو بها أبو صطيف البيطار الكدش؟". وفي قصَّة أخرى، يصف رجلاً بقوله: "كان وَجْهُهُ مثل وَجْهِ طفلٍ تَرَوَّقَ بسندويشة لحمة، لَحَّامُها، في قلبه مخافةُ الله". لاحظ أنّه في لغته يتجرأ على نحت أفعال فصيحة من كلمات عاميّة، ففي الشام يُسمُّون طعام الإفطار ترويقة، نحت منها فعل تَرَوَّقَ، والسياق القصصي يعطيك معنى "تناول طعام الفطور"، فلا يأخذك الظنّ إلى أنّه يقصد على سبيل المثال أنّه أصبح فيلسوفاً رواقياً.