حقول الألغام أمام إدارة الشرع في سورية

06 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

بغضّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، والإعجاب بطريقته في الإدارة أو لا، فتلك قضايا تتعلّق بالمواقف والقراءات، ولا تؤثّر في حقيقة أن شابّاً أربعينياً مطلوباً من عدّة دول، في مقدّمتها أميركا التي عرضت عشرة ملايين دولار لقاء المساعدة في اعتقاله... رغم ذلك، دخل ذاك الشابّ دمشق برفقة مجموعة "جهادية"، وقوّض نظاماً ديكتاتورياً اشتُهِر بـ"عدالة" نشر المظلومية على السوريين كلّهم منذ خمسة عقود وأكثر. رحلة بدأها الشابّ باسم "أبو محمّد الجولاني" من إدلب، واستغرق 11 يوماً لا أكثر حتى وصل إلى دمشق، ساعياً إلى تأسيس كيان يشمل الأراضي السورية كلّها، ولم ينسَ أن يرسل مجموعةً من الرسائل السياسية بمضامين مجتمعية وأمنية إلى القوميات والمكوّنات، وللسلك الدبلوماسي الأجنبي، داعياً إلى تشكيل دولة قال إنها ستشمل الجميع. وكانت هذه الخطوات كفيلةً باختلافه مع قادة أصوليين رافقوه منذ بدايات تحرّكه وعودته من العراق، ففضّل طريقاً خاصّاً به لصنع القرارات وتنفيذها، مستثمراً التغيّرات في الساحة السياسية والجغرافية في الشرق الأوسط، خاصّة مع انهيار ما يُعرَف باسم "محور المقاومة"، ومحق قوات حزب الله، وتدمير قوة إيران في سورية ولبنان، فاستغل لحظة تفوّقه لانتهاز الفرصة التاريخية، وفرض نفسه في الساحة السورية، فالمدن سقطت واحدةً تلو الأخرى، وانضم الآلاف من الأهالي لقواته، بل يُمكن القول إن النظام السوري ساهم في إسقاط نفسه سريعاً، حين لم يقاوم جيشه أو يحارب، ليفيق الشعب السوري صبيحة 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، على وقع أنبل الأخبار وأعظمها، وبصوت الصحافيين السوريين: "سورية من دون الأسد، سورية انتهى فيها الأبد".
بدأت في دمشق صورة ورواية جديدة. ظهر أحمد حسين الشرع، استعاد الرجل اسمه الحقيقي، بالتزامن مع التخلّي عن ماضيه، أو هكذا يُوحي، منتقلاً إلى صورة الدبلوماسي والسياسي، مستخدماً أسلوباً هادئاً في الحديث والحَذِر في التصريحات، راغباً في تقديم صورة رجل دولة عوضاً عن صورة المحارب والمجاهد... والتسميات السابقة. وما يخطّه هنا كاتب السطور ليس تسويقاً أو وصفاً له، بل يسعى الكاتب إلى القول إن التحوّلات في سلوك الشرع وهيئته ربما تعكس جهوده لإزاحة النمط التقليدي الذي عُرف به، حاكماً فرداً مطلقاً من دون حرّيات وديمقراطية، خاصّة أنه حظي بنصر سريع فتح له أبواب دمشق على مصراعيها. في المقابل، ومن زاوية أخرى من الرواية، ورغم منطقية أن "الشبّيحة" و"النبّيحة" وأيتام البعث والنظام السابق، خاصّة المطلوبين منهم في قضايا وجنايات ضدّ الإنسانية، سيسعون بكلّ قوتهم لزرع الفوضى والفتن، إضافة إلى أن سنوات الحرب والدماء تخلق سلوكات لدى بعض العناصر المسلّحة لا تتلاءم مع طبيعة المجتمع السوري، وتحتاج إلى إعادة تأهيل ودمج لأصحابها... رغم ذلك، فإن بعض القرارات والتصريحات التي تصدر من هنا وهناك، وتُضخّم أحياناً في وسائل التواصل الاجتماعي، تُحدِث، هي الأخرى، عقابيل أمام تطوّر العمل الحوكمي الجديد، خاصّة أن حكم دولة مثل سورية يختلف كلّيا وجذرياً عن حكم محافظة مثل إدلب، سواء من ناحية التركيبتين، السكّانية والقومية، أو من جهة الشرخ النفسي والعاطفي والسلوكي للشعب السوري، الذي تسبّبت به الحرب. وهناك كتلة ضخمة من العراقيل والصعوبات والتحدّيدات تواجه الحكومة الحالية، والأكثر غرابة أن حكومة تسيير أعمال لثلاثة أشهر، يُطلب منها العمل حكومةً ذات جذور تاريخية عميقة. أبرز هذه التحديدات، أولاً، آلية تشكيل هُويَّة سياسية جامعة، فصراع الهُويَّات التي جاء بها النظام السوري والمليشيات الإيرانية وحزب الله في سورية، خلقت انقسامات وصعوبات عميقة، تواجه عمل الحكومة في خلق إجماع وطني حول نوعية الهُويَّة وسياقها الحضاري، بعد سنوات الحرب والنزاع، خاصّة أن الجيش والأمن هما ضلع القاعدة في مثلث الهُويَّة، بالإضافة إلى علاقة الدين بالدولة وشكل الدولة ونظامها، وهذه عراقيل حقيقية، لا يُمكن حالياً الحديث عنها قبل الدخول في المرحلة الانتقالية ومشاركة الكيانات السياسية فيها.

ملفّا عودة المُهجّرين وإعادة الأعمار يُشكّلان أبرز ضاغطين على أيّ حكومة سورية

ثانيا، هناك المشكلات الأمنية والعسكرية. يمكن للمواطنين من القامشلي وإدلب الوصول بمركباتهم الخاصّة إلى دمشق، من دون أيّ خوف من الطريق الطويلة، وهي في حدّ ذاتها أحجية، إذ لم يصدف في سياق سقوط الأنظمة غياب عصابات التشليح والنهب في الطرقات، إضافة إلى غياب مظاهر العنف والنهب في مناطق سورية عديدة، في مقابل أحاديث عن وجودها في مناطق أخرى. لكن الواقع يقول إن سورية لا تزال ذات بيئة أمنية هشّة، فهناك انقسام بين دمشق وشمال شرقي سورية، وبين دمشق وأقصى الجنوب حيث السويداء. تبدي تلك الأطراف مقاومة (إمّا مباشرة أو ناعمة) للضم من دون ضمانات وتوافقات، وهي واحدة من المخاطر أمام حكومة تصريف الأعمال والحكومة الانتقالية المقبلة. وهناك ثالثاً الكارثة الاقتصادية والإنسانية، دمار أتى على عصب الحياة الاقتصادية السورية، بنية تحتية مدمّرة وارتفاع مخيف في معدّلات البطالة، وهو ما يُلزِم الإدارة الجديدة في دمشق بالانفتاح على دول الجوار؛ العراق وتركيا والأردن والسعودية، بما تحمله تلك الإدارة من تناقضات وخلافات، من المحتمل أن تؤثّر في طبيعة ورِتم العلاقة بين دمشق وتلك العواصم، خاصّة أن المتوقّع عدّم الرضا العربي من المدّ التركي في سورية، التي من الواضح أن لها اليد الطولى في الملفّ السوري الداخلي حالياً.
يقود ما سبق إلى تحدٍّ رابع، يتمثّل في الانقسام السياسي، وتأثيره في الشرعية الشعبية للحكومة، فالانقسام بين القوى السياسية واضح، وفي رأسها رفض الشرع وجود الائتلاف الوطني السوري المعارض، إضافة إلى الخلافات القومية والأيديولوجية بين مكوّنات الشعب السوري، وتحقيق التوافق السياسي هو مطلوب أولاً وبعمق، وهو صعب أيضاً، خاصّة أن الأطراف السياسية لم تكن متّفقة أساساً في غالبية القضايا المتعلّقة بالمصير السوري خلال الثورة السورية، وهو ما قاد إلى غياب الثقة بين القواعد الاجتماعية والأطراف السياسية. ويبدو أن زيارة وزيري الخارجية، الفرنسي جان نويل والألمانية أنالينا بيربوك، معاً للقاء أحمد الشرع ممثّلين عن الاتحاد الأوروبي، تحمل ثلاث رسائل مركّبة، أولاها أن مشروعاً دولياً توافقياً حصل بين الدول ذات الشأن يخصّ سورية، وثانيتها أن الدعم الدولي مشروط بتنفيذ تلك الاجندات التي غالباً سترتبط بمستوى الحرّيات والديمقراطية وحقوق المكوّنات والأمن والإرهاب، وثالثتها، وفق ما صرّحت به بيربوك، أن أوروبا ستدعم سورية خلال المرحلة الانتقالية، لكنّها لن تُموّل هيئات إسلامية جديدة، في رسالة واضحة بضرورة التوافق وتشكيل هُويَّة مدنية جديدة لسورية.

لا مراكز قوى عسكرية في سورية بعد اليوم، فسلاح الجو الإسرائيلي دمّر القدرة القتالية للجيش السوري

في المقابل، يعي أحمد الشرع جيّداً أن عدم رفع العقوبات الدولية عن سورية يُضعِف من احتمالية الحصول على الدعم المالي الخارجي، أو جذب الاستثمارات الخارجية. وفي النهاية، فإن ملفّي عودة المُهجّرين وإعادة الأعمار يُشكّلان أبرز ضاغطين على أيّ حكومة، سواء حكومة تصريف أعمال أو انتقالية أو مُنتخبة. ورغم ضمان الانحياز باتجاه واشنطن على حساب موسكو، فإن ما يُعقّد هذا الواقع الصعب أكثر أمام دمشق أن دول الجوار السوري، وفي رأسها تركيا، ستستمرّ في محاولة السيطرة على الشمال السوري، والظفر بأكبر قدر ممكن من المكتسبات، فهل سترضى الدول الأوروبية والعربية بذلك؟... في الوقت الحالي، لا يمكن التعويل على أيّ إصلاح دستوري أو سياسي، على الأقلّ حتى بداية مارس/ آذار (2025)، حين تنتهي مدّة عمل الحكومة الحالية، وهي اللحظة التي ستوضّح كثيراً من القضايا، من شكل الحكومة، ولونها، وهل سيُمدّد لها أم ستتوافق الأطراف السياسية على تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات واسعة، كما نصّ قرار مجلس الأمن 2254، بعد تعديل البند المتعلّق بالتفاوض بين المعارضة والنظام، ليتحول إلى ما يضمن حواراً سورياً سورياً لانتشال البلاد من الفوضى والتوتّرات؟
صحيحٌ أن الشرع قائد عسكري ذو خلفية إسلامية وعربية، ويملك تجربةً غنيةً ومكثّفةً في قيادة كتلة عسكرية منظّمة وملتزمة، لكن لا مراكز قوى عسكرية في سورية بعد اليوم، فسلاح الجو الإسرائيلي دمّر القدرة القتالية العظمى للجيش، خاصّة سلاح الجو والمدفعية والصواريخ بعيدة المدى، ومراكز البحوث والصناعات العسكرية، وبالرغم ممّا يُشاع عن ارتباط هيئة تحرير الشام باتفاقات بين واشنطن وأنقرة، لاقتسام مناطق نفوذ استراتيجية بهدف تحقيق مصالح معينة في سورية، فإن لا رؤية واضحة للمستقبل القريب للبلاد، خاصّة بعد المدّة الطويلة التي أعلنت لكتابة الدستور والانتخابات. كما تتداول الأوساط السياسية والنخبوية السورية مؤشّرات استنساخ التجربة التركية ذات التوجّه المدني الإسلامي وتطبيقها في سورية، وربّما يكون أحد الحلول بالنسبة للشرع، وقد يلقى ذلك استحساناً دولياً إذا ما حقّق التوازن بين التطلّعات الدينية للجماعات الملتزمة والساعية صوب الإسلام السياسي، والانفتاح على العلمانية أو المدنية بالنسبة للقوميات والأقلّيات الدينية والقومية. هذا الرِتم السياسي والإداري ربّما يصعب تحقيقه في ظلّ دولة مركزية، لكنّه سيكفل مكانةً قويةً للشرع في المسرح السياسي الدولي من جهة، ومن جهة ثانية ربّما يصطدم برفض عربي معارض للتغلغل التركي وانتعاش الإسلام السياسي في مناطق من سورية، خاصّة مع فشل التجارب السابقة للإسلام السياسي على مستوى الدول مثل مصر، أو بجناحه الشيعي متمثّلاً بحزب الله، أو السُنّي المتجسّد في حركة حماس.
الواضح أن الطريق ليس معبّداً بالورود أمام الشرع، بمقدار المسامير والألغام الموجودة، ومن الصعب التكهّن حالياً بمصير البلاد. لكنّ الإضاءة الجيّدة في القضية هي رغبة السوريين بالخلاص والاستعجال بالحلّ، وإن لم يأت كلّه دفعةً واحدة.

C7598B9E-9D58-429F-8BD9-3355DA871B09
C7598B9E-9D58-429F-8BD9-3355DA871B09
شفان إبراهيم
شفان إبراهيم