حقول حيدر حيدر الفلسطينيّة
للفلسطينيين حصّةٌ ثقيلةٌ في حيدر حيدر، صاحب المكانة الباهظة في متن الرواية العربية الحديثة. السوريّ الذي رابط على أفقٍ تقدّميٍّ ديمقراطيٍّ، مضادٍّ للاستبداد، وارتحلَ من بلده تهريبا، وأقام في غير منفى، ثم عاد بعد عقدٍ بجواز سفرٍ يمني. وفي غضونه تلك، وقبلَها وبعدَها، ظلّ على فلسطينيّته الموصولة بسوريّته. ولئن طاب لبعضِهم، ساعاتٍ بعد وفاة هذا الكاتب المجدّ المتجدّد قبل أيام، عن 87 عاما، أن يخدِش في شخصه، فإن هذه المقالة تُحاول، عبثا، أن تقطف الأرجوانات من حقوله الفلسطينيّة العديدة المتعدّدة، وأنّى لها أن تفلح، فإنها أرجواناتٌ غزيرة. وحسنا منه أنه زوّد قرّاء مدوّنته الروائية والقصصية العريضة بكتابيْن ييسّران التجوال في كثيرٍ من حقولِه وحدائقه، في تغريباتِه، في رؤاه وأفكاره، اجتمعت فيهما أشتاتٌ من مقالاتٍ ويوميّاتٍ نَشَر منها ما نَشَر منذ أزيد من 50 عاما في صحافاتٍ سيّارة. وإذا جاز أن يُعدّ "يوميات الضوء والمنفى" (2022) سيرةً طَلْقةً، وسَفرا رحبا في التجربة الشخصية مع الحياة والكتابة والمنع والقمع، فإن "أوراق المنفى ... شهادات عن أحوال زماننا" (صدرت طبعتُه الأولى في 1993) يوثّق لنا حيدر حيدر كاتبَ المقالة الثقافية والسياسية، الساخطة والغاضبة غالبا (على الأنظمة العربية ونزار قبّاني مثلا)، التي ينحاز الأعتقُ منها إلى "الثقافة الثورية" و"الأدب الثوري"، ويدعو، في واحدةٍ في 1973، إلى الأدب المعنيّ بحركة الصراع وهموم البشر المسحوقين، ...، و"لكن بمستوىً فنّي وجماليٍّ لا يمكن التنازل عنه".
في الوُسع أن يُقرأ كثيرٌ من أدب حيدر حيدر من هذا المنظور الذي "دافع" عنه مبكّرا. ومن أدبِه روايتُه "حقل أرجوان" (صدرت طبعتُها الأولى في 1980)، المحض فلسطينيّة، والتي يجوز، في الذكرى الراهنة لنكبة فلسطين، حسبانها حبّةً طيّبةً في عنقود الرواية العربية التي انشغلت بهذه الموضوعة. يُعطي صاحب "التموّجات" البطل صوت السارد عن وقائع من تلك النكبة شاهَدها في حيفا ومينائها لمّا ارتحلت أسرتُه، في مقطع من موجات اللجوء الفلسطينية إبّان الحرب (1948)، عبر البحر إلى لبنان، وغرقت (لا علم لديّ بحوادث غرقٍ في اللجوء الفلسطيني بحرا؟). ثم يصبح الراوي فدائيا في تدبير عمليات المقاومة في فلسطين، بعد هروبه (!) من سجنٍ أردني، وهو الذي جرى تسريحُه من الجيش الأردني. ومن أبدع ما في الرواية شخصيتا الأم والأب، المتضادّتان في فهم الحياة وتصاريفها، وفي الاشتباك أو عدمه مع العدو، الأمر الذي تتكرّر ظلالٌ منه معكوسةً في شخصيتي الراوي نفسه وزوجته. ولمّا كانت هذه الرواية تستوحي سيرة فدائيّ فلسطيني، أسيرٍ سابق (توفي في الأردن في 2006)، وقد أعطته اسمَه الحركي نفسه، نافذ علّان، فليس من همّ هذه المقالة التأشيرُ إلى مساحات المتخيّل والحقيقيّ فيها، وإنما التذكير بأن حيدر حيدر الذي انتسب إلى المقاومة الفلسطينية في بيروت، وكتبَ مما كانت بين ظهرانيه من بطولاتٍ ومواجهاتٍ، كتب أيضا من عملياتٍ فدائيةٍ لخلايا مقاومة في الشعب الفلسطيني بُعيْد النكبة وبُعيْد النكسة في فلسطين نفسها، في روايةٍ أعطاها اسما جميلا.
حيدر حيدر في "يوميات الضوء والمنفى" مندهشٌ لأنه لم يمُت تحت القصف الإسرائيلي، في اجتياح بيروت 1982، الذي مزّق جدران بيتِه ومكتبتَه في صباحٍ رهيب، حيث نجا بالمصادفة. ويكتُب "كان لي شرف الوجود والمقاومة ضد الاجتياح حتى خروجها من لبنان". وقبل هذا، من يوميّاته في بيروت، تمّوز 1977، "لقد فتحت المقاومة صدرَها وضمّتني في الأزمنة الصعبة. هكذا هؤلاء الفلسطينيون "الخاطئون"، ضحايا العصر العربي الخائن، يؤكّدون أنهم الأنقى في أزمة التلوّث". وفي يوميةٍ تالية "لقد دفع الفلسطينيون على مدى التاريخ المعاصر فدية الأمة العربية المحاصَرة بطُغاتها، وجلّاديها. اندفعوا نحو الثورة، فدفعوا الأقصى: الدم". وتتعدّد مواضعُ جهَر فيها صاحب "الفيضان" بفخرِه بانتمائه لفلسطين. يكتب "الشعب الفلسطيني، رغم الجراح والخناجر والرصاص، حيٌّ لا يموت. مقاومته الروحية والثقافية أقوى من الغزاة وبرابرة العصور الحديثة والنازيين الجدد".
تقرأ عباراتٍ فوّاحةً بالأرجوان في حقول حيدر حيدر الفلسطينية، شاسعة المغازي، عن الفلسطيني ودمه، عن بسالته، كتبها في أزمنته تلك، وأين لك أن تقرأ، في الزمن العربي الراهن الكالح، مثل الذي تُصادِفه في أوراق ذلك المنفى، عن "السلام المُهين الذي يتوّج الوحش ويحذِف اسم فلسطين من الخريطة العربية"، ذلك في 1984، وصالحٌ، لا ريب، في 2023 وما بعدَها.