حكايتي مع دريد بن الصمّة
زعم خبير في الاجتماع الإنساني أنّ وسائل التواصل الاجتماعي قرّبت البعيد وأذابت الحواجز، وما أكثر الخبراء هذه الأيّام، وما أسهل الألقاب في وسائل التواصل، وأيسرها وأرخصها! وإنّ أكثرها فشواً وشيوعاً لقب الخبير الاستراتيجي، لكنّي لا أوافق الخبير في دعواه، فقد أبعدت القريب، وأذكت بيننا العداوةَ والبغضاءَ أيضاً، وكشفتْ ما في الصدور، وكنّا مغموسين في نعماء الستر، التي ليس بعدها نعمة، فقد جعلتنا مكشوفين عراةً من غير ورقة توت أو سرو.
وقد حاولتُ الاتصال بمن تذكّرت من أترابي وزملاء الدراسة والطفولة والصبا والشباب، فبحثت عنهم ونقبّت في الصفحات، واتصلت ببعضهم، وجهدت في الاتصال بآخرين لعلّهم أبوا إنشاء حسابات لهم، استتاراً أو تقيّة أو لحرمانهم من الكهرباء، أو أنّهم أنشأوها بأسماء وكنى مُستعارة. وكان منهم زميلي في "البكالوريا" (الثانوية العامة) خير الله، بطل قصتي هذه، وجاري الذي سقط في غياهب جبّ البكالوريا مذهولاً، وهو يرى زملاءه قد أعدّوا للامتحان الكبير عدَّته، وأنفقوا صيفاً من الاستعداد بدورات التقوية في الرياضيات والفيزياء والعربية، وكان موسراً وبخيلاً، يزور ولا يُزار. وكنت أرغب في رؤية بيته الكبير، فقد كنت شغوفاً بتوزيع الغرف والدالية والبئر والبركة في الديار، وكان وحيدَ أبيه الذي كان يملك قطيعاً من الغنم يفيض به السهل، وكان يستغيث بي في فهم قوانين ماكينة آتوود والسرعة والتسارع والصدم اللين والصدم المرن والقطع الناقض والقطع الزائد، وقوانين انكسار الضوء، والمُعرَب والمَبنِي، وشرح دريد بن الصمّة، حتّى قلت له مرّةً: ابذل مالاً واسعً في دورات تقوية. وفي سرّي قلتُ: "أنت كلّ يوم تفطر عندي، فهلّا أحضرت معك بعض اللبن والجبن يا صاحب الشاة، التي لو سال لبنها نهراً لفاض به الوادي".
اتّعَظ من نصيحتي الأولى، والتزم مُعلّماً، واجتهد فتحسّن كثيراً، وبرز في الرياضيات وكسر لوعتها، وذلّل وعورتها، ووقف على دقائق علوم الهندسة وقوانين الكرة والهرم المُنحرِف وشبه المُنحرِف، وحساب مساحة الدائرة وحجم الهرم وحساب التكامل والتفاضل، واللوغاريتم، الذي لم نكن نعرف أنّه تحريف للفظ الخوارزمية. ثمّ فرّقت الجامعة بيننا، ثم تفقدّته طويلاً بعد الفرقة والنزوحات الكبرى، لكنّي لم أجد له حساباً في "فيسبوك" ولا في "إكس". فرح بي أصدقاء، وأدار لي آخرون ظهورهم، فقد فرّقت بيننا منشوراتنا الغاضبة، بعد أن تعرّينا في صفحاتها وكشفنا عقائدنا الدينية والسياسية، لقد جعلتنا وسائل التواصل أطفالاً من جديد، وعميانا أيضاً، والعميان وِقِحون.
مكثت سنين أبحث عنه، وأسأل عن أخباره، إلى أن صدمتني سيّارة بيضاء ذات يوم نحس مُستمرّ، فأطاحتني، وجندلتني، فتبعثرت ثمارُ الطماطم على الأرض، وقذفت بدرّاجتي معي، فتألّمت، وتلمّست عظامي متأوِّهاً، فتحتُ عينَي فرأيت رماح ضوء الشمس المرتدّة عن السيارة البيضاء تُعشِي بصري، وحمدت الله أنّي ما أزال أبصر واتنفّس. خرج سائق السيارة غاضباً، كان السائق هو خير الله... ابتسمت مع ألمي من الصدمة، وحاولت القيام لمعانقته شوقاً، لكنّي عجزت. تفحّص سيارته فلم يجد بها كسوراً أو خدوشاً، وانتبهت إلى رقم السيارة الخليجية الفاخرة، التي لم أعرف جنسها، فأنا ضعيف في عروض الشعر وطرز السيّارات وفهم النساء.
صاحَ بي: "ألا تنظر أمامك.. أنت أعمى؟". سبَّ وشتمَ، وأنا أُغالب آلامي وأنظر إليه مندهشاً، مبهوتاً مصعوقاً من نكرانه، ألم يعرفني؟ هل تغيّرتُ أم أنّ المال والكَسْب قلب القلب؟ ... كان ألمي من تجاهله أشدّ من ألمي من الصدمة، كنتُ مبطوحاً بين الطماطم والجزر والملفوف وثمر الباذنجان، ومعفَّراً بالتراب والألم، وكدت أقول له ما قاله دريد بن الصمّة لربيع بن رفيع السَلَمي، "بِئْسَ مَا سَلَّحَتْكَ أُمُّكَ (وسلاحه السيّارة). خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخَّرِ الرَّحْلِ، وَكَانَ الرَّحْلُ فِي سلّة الدرّاجة، ثُمَّ اضْرِبْ بِهِ، وَارْفَعْ عَنْ الْعِظَامِ، وَاخْفِضْ عَنْ الدِّمَاغِ، فَإِنِّي كُنْتُ أشرح لك الصدم المرن والصدم اللين، ثُمَّ إذَا أَتَيْتَ أُمَّكَ فَأَخْبِرْهَا أَنَّكَ صدمت دُرَيْدَ ابْن الصِّمَّةِ، فَرُبَّ وَاَللَّهِ يَوْم علمتك السرعة والتسارع والخوارزميات".
حاول بعض المارة معاونتي على النهوض، ثم أسعفوني. اطمئنَّ القطعُ الناقصُ على خلو سيّارته من العيوب، ثم ركبها وهو يرطن بشتائمَ، وحاد عني، وداس على ثمار الطماطم فانبثقت دماؤها في وجهي، وانقذفت نواة برقوق إلى عيني فعوَرَتني.