حكومة لبنان: "الكمال لله"
أدّى رئيس الحكومة اللبنانية المكلف، نجيب ميقاتي، صلاة الجمعة، ثم انصرف إلى القصر الرئاسي، ليجري اللقاء المرتّب مع رئيسي الجمهورية والنواب، ميشال عون ونبيه برّي، قبل إعلانه، هناك، أسماء وزراء حكومةٍ تعطّل تشكيلها 13 شهرا (ليس رقما كئيبا إذن؟)، برئاسته. وكادت دمعةٌ تطفر من عينيه، وهو يسرُد، أمام الصحافيين، وأمام نظّارته على الشاشات، عن أمٍّ لا تجد حليبا لطفلها، وولدٍ لا يذهب إلى المدرسة، وأبٍ لا يعثر على حبة دواء، وذلك في لبنان الراهن الذي صارت له حكومة جديدة، تشكّلت برئاسته، قال بشأنها إن "الكمال لله". والمؤكّد أن اللبنانيين لم ينتظروا من أي حكومةٍ تأتلف في بلدهم أن تتّصف بالكمال، والراجح أنهم كانوا في شأن هذه، المعلنة بعد صلاة يوم الجمعة الماضي، متواضعين في طموحاتهم، ولا يطلبون منها غير أن تنهي حالهم البائس، وهم يفتشون عن أدوية في الصيدليات فلا يجدونها، ويصطفّون طوابير بمشقةٍ فادحة ساعات أمام محطّات الوقود لتعبئة سياراتهم، وتتآكل مدّخراتهم ورواتبهم ونقودهم أمام الغلاء والنهب وذوبان الليرة، وغير هذه من مطاليب تتعلق بعيشٍ عاديٍّ في دولة طبيعية، تتوفر على الحدود المعقولة في توفير التعليم الميسور والتطبّب اللازم والقدرة على شراء الغذاء.
المشتهى أن تنجح حكومة ميقاتي في هذه "الاستحقاقات"، وقد ذاع أن مغادرة مربّع خلافات الحصص والأنصبة والتابعيات في تركيبتها، بين الرئيس عون ومن هم في غير ضفته، ما تمت إلا بعد تيسيرٍ أميركي، قضى بأن ينتهي اللتّ والعجن المزمنان، وتتوقف مراثونات اللقاءات المُضجرة، الفلكلورية، بين رئيسٍ للجمهورية ورئيس حكومةٍ مكلّف، ولو اقتضى الحال تنازلاتٍ من ميقاتي ومن يمثلهم. وشاع أن مطلبا مثل هذا ألحّ عليه الفرنسيون، وأن مكالمةً هاتفية بين الرئيسين، الفرنسي ماكرون، والإيراني إبراهيم رئيسي، يسّرت المشوار الـ14 لنجيب ميقاتي إلى قصر بعبدا من أجل الحكومة. ولا نظنّنا، نحن غير اللبنانيين، قادرين على تفكيك ألغاز اللحظة الأخيرة التي قرأنا إن الرئيس عون أحرز في غضونها "ثلثا معطّلا مبطّنا"، وأن له (وصهره رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل) عشرة وزراء من الـ24 وزيرا في الحكومة. وتاليا، طالعنا خرائط حصص ميقاتي ونبيه برّي وعون من الوزراء، والبين بين، فاحتجْنا إلى شيء من عقل أينشتاين لإسعافنا في فهم هذه اللوغاريتمات. وفي الغضون، قرأنا أيضا، بشكل عارضِ، ما قد ينفع للتسرية عن النفس، أن فؤاد السنيورة عارض التشكيلة وأن وليد جنبلاط لم يكن مهتما بها (!).
أما وأن "الكمال لله" على ما ذكّرنا نجيب ميقاتي، وهذا حقيقي، وأن الحكومة لن تقوم بالمعجزات، على ما افتتح وزير الإعلام المعيّن، جورج قرداحي، تصريحاته الرسمية، فإن الملفات العويصة، أو التحدّيات الثقيلة، أمام الطاقم الوزاري الذي يقال إن فيه وزيرا (أو وزيرة؟) ملكا، لا تتطلّب اجتراح معجزاتٍ ولا كمالا ما بعده كمال، وإنما إرادة حقيقية في مواجهة الأعطاب الماثلة، وأن يقال للأعور في عينه إنه أعور. ولا نحسب أننا، نحن أهل التعليقات المرتجلة في الصحافات السيّارة، على قدرةٍ في رسم خطط الخروج من مشكلات الطاقة والمديونية والأزمة المالية والمصرفية وقضايا البيئة والصحة و.. في لبنان. وفي حكومة ما بعد صلاة يوم الجمعة الماضية وزراءٌ على أهليةٍ وكفاءةٍ في هذه القطاعات وغيرها (بعيدا عن أن قاضيا عيّن وزيرا للثقافة ليس على خبرةٍ في قطاعها). وإذا ما تبيّن بعضٌ من هذا، بالتوازي مع دعم قطري وآخر كويتي، مالي وسياسي (ماذا عن السعودي؟)، متوقعيّن، ومع إسنادٍ فرنسي وارتياح أميركي مطلوبين، فإن أقفال المشكلات المغلقة ستجد مفاتيحَ لها، غير أن هذا كله مشروطٌ بالبديهي المعلوم، مغادرة "الأفرقاء" اللبنانيين، في خارج الحكومة، لعبة المكايدات الحزبية والسياسية، وهواية التعطيل إياها. وثمّة الشرط الخالد تاريخيا، أن لا تلعب الأفاعيل الطائفية ما تفعله في القضاء ومسار عمله في ملفاتٍ بلا عدد، في مقدّمتها واقعة انفجار مرفأ بيروت. والمرجوّ، من قبلُ ومن بعد، أن يُحمى لبنان من مغامراتٍ غير مستبعدة تتعلق باستحقاق موقع رئاسة الجمهورية، ومغامراتِ من بيديه أكثر من قرار في البلد، الحرب مثلا.. وفي مختتم المطاف، بعضٌ من الكمال قد يكفي.