حلفاء فيروس كورونا بيننا
بثت قناة "سي أن أن" الإخبارية الأميركية، يوم السبت الماضي، برنامجاً وثائقياً فضح كيف تواطأت إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، في إفشال التصدّي لجائحة كورونا أميركياً، وهو الأمر الذي أدى إلى أن تكون الولايات المتحدة بؤرته عالمياً، بإصابات فاقت، حتى اليوم، 30 مليوناً، ووفيات يزيدون على نصف مليون. شهود البرنامج كانوا المسؤولين والخبراء أنفسهم الذين أشرفوا على مكافحة الجائحة في إدارة ترامب، ولم يتردّدوا في الاعتراف بأن الحسابات السياسية والاقتصادية للرئيس ومستشاريه كانت البوصلة التي استرشد بها البيت الأبيض في إنكاره حجم الكارثة، ومن تجرّأ منهم على البوح بالحقيقة ومصارحة الشعب بها إما تمَّ تهميشه، أو تهديده.
طبعاً، نعلم من كتاب الصحافي الأميركي المخضرم، بوب ودورد، الصادر العام الماضي، "الغضب"، أن ترامب كان يعلم الحقيقة وهو يكذب على الأميركيين، ويحرّضهم ضد إرشادات السلامة التي وضعتها إدارته ذاتها، كلبس الكمّامات والتباعد الجسدي، ودافعه لذلك حسابات سياسية في سنة انتخابات، بذريعة أنه لا يريد أن يثير الفزع بين المواطنين، ويتسبّب بركود اقتصادي. هو نفسه قال ذلك لمؤلف الكتاب. والنتيجة ماثلة أمامنا، إذ حسب اعتراف صادم للدكتورة ديبورا بيركس، منسقة الاستجابة لفيروس كورونا في البيت الأبيض حينها، أول مائة ألف حالة وفاة أميركياً يمكن إيجاد عذر فيها للإدارة، إذ لم تكن المعلومات حول الفيروس متوفرة كما الآن. إلا أن مئات الآلاف التالين من القتلى لا عذر فيهم، إذ كان يمكن تقليص حجم الضحايا بشكل كبير لو تمَّ التعامل مع الأمر كما ينبغي. بمعنى أننا نتحدّث عن إزهاق أرواح لأغراض أنانية بحتة.
ما دام فينا من يصرّ على اتباع الجهل والجهال، سنبقى قابعين أين نحن اليوم مصفدين بأغلال القيود التي نطالب بكسرها
لم ينحصر تسييس جائحة كورونا في الولايات المتحدة، بل إنها كانت، ولا زالت، موضوعاً لسجال إيديولوجي وسياسي عالمي، منذ تفشّت في المعمورة. مباشرة برزت نظريات المؤامرة حولها. وإذا كان يمكن تفهم الشكوك القائمة بشأن مصدر الفيروس ومنشئه وطبيعته، إلا أن الأمر المستهجن يتمثل في إنكار بعضهم وجوده أصلاً، مستندين إلى نظريات مؤامرة متهافتة سخفاً ومنطقاً ودلائل، خصوصاً من شعبويين يَدَّعونَ العلم والتخصص. الحقيقة هي الحقيقة، ثمَّة فيروس غامض وقاتل، بغض النظر عن كنهه، وبغض النظر عن نظريات تصنيعه أو هندسته، ونحن نشاهد ونتابع، يومياً، أناساً من حولنا يصيبهم، وَيَخْتَطِفُ أرواحهم، ومع ذلك لا يزال فينا منكرون!
ثالثة الأثافي أن يشمل التشكيك ونظريات المؤامرة اللقاحات التي تمَّ تطويرها للتصدّي للجائحة ولكبح جماحها. القلق من سرعة تطويرها مشروع، ولكننا مضطرون أن نتبع ما يقوله العلماء والمختصون، وهم يشدّدون على سلامتها، وفعاليتها، بناء على تجارب سريرية ومنهجية. ولنفترض، جدلاً، أن أمان اللقاحات غير مقطوع به، فما هو البديل؟ نحن نعلم أن الفيروس موجود، وهو قاتل، بغض النظر عن منشئه وطبيعته، وبالتالي، فإن تحصين أنفسنا ضده هي الأولوية القصوى الآن. بغير ذلك، نكون كمن يعرّضون أنفسهم وأحباءهم للخطر والقتل عبر إنكارنا ما أثبتته الوقائع والحقائق.
لن تنجلي هذه الجائحة حتى نعترف بها، ونقرّ بخطرها، ونتعامل معها بحجمها الحقيقي
في سياق المفارقات هنا، أننا كلنا سئمنا الإغلاقات والقيود الصارمة، وما يترتب عليها من تداعيات إنسانية واقتصادية مدمّرة، ومع ذلك يرفض كثيرون بيننا أخذ اللقاحات، الطريقة الوحيدة المتاحة، شئنا أم أبينا، لاستئناف الحياة كما اعتدناها. لو كان هذا الرفض مؤسّساً على علم ودليل، لأمكن تفهم الأمر، أما عندما يكون منطق هؤلاء سخافات وهراء ونظريات مؤامرة، فحينها لا يمكن التعاطف معهم. وحتى ندرك حجم أزمتنا، يقول الخبراء إن الوصول إلى "مناعة القطيع" في أي مجتمع يتطلب تلقيح ما بين 70% إلى 85% من أعضائه، بحيث يصبح انتقال الفيروس صعباً. المشكلة هنا أنه لا توجد لقاحات كافية، بالذات للدول الفقيرة، كما أن نسبة كبيرة من الناس، بما في ذلك في الدول المتقدّمة، لا يريدون أخذه. وإذا أضفنا إلى ذلك عدم التزام كثيرين بإجراءات الوقاية، حينها يمكن أن نفهم لماذا قد يتأخر خروجنا من هذه الكارثة التي حَلَّت بنا، خصوصاً مع ما يترتب على ذلك من طفرات تُوَلِّدُ سلالات من الفيروس أكثر شراسة.
باختصار، لن تنجلي هذه الجائحة حتى نعترف بها، ونقرّ بخطرها، ونتعامل معها بحجمها الحقيقي. وما دام فينا من يصرّ على اتباع الجهل والجهال، سنبقى قابعين أين نحن اليوم مصفدين بأغلال القيود التي نطالب بكسرها. الأهم والأخطر أن ذلك الصنف من الناس شركاء في القتل، مثلهم مثل من يدّعون التخصص والخبرة من الشعبويين. ومثلهم مثل السياسيين الذين يسيسون الجائحة لخدمة مصالحهم. ومثلهم مثل من يخترع نظريات المؤامرة. ومثلهم مثل الإعلاميين الذين يبثون الأكاذيب طمعاً بمزيد من المتابعين. ومثلهم مثل رجال الدين الذين يضعونه في خصومة مع العلم.