"حمّى البحر المتوسط"
لا ينهض فيلم الفلسطينية مها حاج "حمّى البحر المتوسط" (2022) على وقائع مُقنعةٍ تماما. إنه لا يحفل بمسألة الإقناع أصلا، لأن السمْت الكاريكاتيري والهزلي، العابث في غير موضع، جوهريٌّ في إيقاعه العام، ما يجعل مُشاهدَ الفيلم ينجذب إليه، وينشدّ إلى جرعاتٍ من السخرية والتهكّم ظاهرةٍ فيه، لا تقوم على مفارقاتٍ مضحكةٍ فقط، وإنما أيضا، أو قبلا، على الروحية العامة لهذا الفيلم المعنيّ بالإنسان عندما يستبدّ به الشعور باللاجدوى، والإحساس باللامعنى، بأن يكتئب فيما هو في حياةٍ وادعة (ومستقرّة أسريا). وهنا، يجوز النظر إلى هذا العمل السينمائي، الروائي الدرامي، بوصفه فلسطينيا وغير فلسطينيٍّ في آن. فضاؤه مكانيا مدينة حيفا، ومن مُرسلاتٍ حرص على حضورها وإيصالها إلى المتلقّي أن ثمة احتلالا إسرائيليا ثقيلا هنا، يحاول مصادرة الهوية وانتساب البلد إلى أهلها الأصلانيين، وانتسابهم إليها. ولكن هذه واحدةٌ من ثيمات الفيلم، وإذا تزيّد من رأوْها شاغلا أساسيا فيه، وهو القائم أساسا على التكثيف في تظهير مضامنيه، فلهم هذا، وإن يلزَم أن يقولوا أيضا إنه عملٌ سينمائي يقترح صيغةً فنيةً مركّبة، تؤالِف بين مضادّاتٍ، لها عدة تمثيلاتٍ في ساعتي الفيلم، وإن بدا أن أبرزَها صداقةٌ تطرأ بين جاريْن مختلفيْن في المزاج والطبائع والأفكار، وتوازي بين الجدّية القصوى (الحياة والموت، القدس والاحتلال والهوية الوطنية، ...) والخفّة القصوى (كتابة رواية عن موضوع مفقود، القعود في المنزل بدل وظيفة جيدة في بنك، ...).
المرجّح أن "حمّى البحر المتوسط" استحقّ جائزة أفضل سيناريو في مسابقة "نظرة ما" في مهرجان كان 2022 لتماسُك بناء السيناريو الذي كتبته المخرجة نفسها، مها حاج، في مسار حكايته وإحالاتها وتفريعاتها، فيما توفّر على مرسلاتٍ وفيرةٍ ومضامين كثيرةٍ وإيحاءاتٍ ليست قليلة. ومن هنا، تكاد لا تقبض على موضوعةٍ واحدةٍ له، مركزيةٍ تماما. وذلك من دون أن يقع الفيلم في الثرثرة والمشهديات الزائدة والاستعراضيات الإخراجية. احتمى من هذا كله، في لملمة تفاصيله وشدّها، بالتقابلات بين طبيعتي الشخصيتين الرئيستين فيه، الجاريْن الصديقين، حتى مقتل أحدِهما في مختتم الفيلم. وهنا، كانا باهريْن، بلا مبالغة، أداءُ عامر حليحل (وليد) في شخصية الموظف السابق، نزيل البيت، الكاتب المكتئب، عازف العود، زائر الطبيبة النفسية سنتين من دون أن يتحسّن حالُه. وأداء جارِه أشرف فرح (جلال)، البنّاء أحيانا، صاحب المزاج المرح، المحبّ للحياة، والمتورّط في ديونٍ مع عصابةٍ غامضة، الذي تحبّه زوجتُه فيما يقيم علاقةً مع امرأة أخرى، الأليف مع الناس، الفهلوي، المريح. لا يُنئبك الفيلم عن ديانة وليد أبدا، مسلما أو مسيحيا، فيما جلال ينبئك هو نفسُه عن مسيحيّته. كلاهما مُضحكان في غير سلوكٍ أو موقفٍ أو حوارٍ أو تعبيرٍ أو حركة، غير أن أحدَهما (وليد)، الهشّ، الذي لم يكترث سيناريو الفيلم في تبيان أسباب اكتئابه (إلى حد الرغبة في الانتحار!)، على غير عموم شخصيات الفيلم الأخرى، جدّيٌّ في كل شيء. نرى في غرفته صور غسّان كنفاني، ويحاول أن يكتب روايته (يعتقد أنه إذا صار يكتب رواياتٍ سيوفر لنفسه دخلا!) ولا يكتب شيئا. يطلب من صديقه الجار أن يقتله، بكيفيةٍ لا تبدو جريمة، وذلك في أثناء رحلةٍ ليليةٍ لصيد خنازير برّية، وهذه هواية الصديق الظريف، رحلة مع معارف (أو أصدقاء؟) سبق لهم أن هدّدوا هذا بالإيذاء إذا لم يسدّد ديْنا ماليا لهم. يقتلونه في رحلة الصيد هذه، بينما كان يتهيأ لتلبية طلب جارِه منه قتله (أو هيّئ لنا نحن المشاهدين أنه سيفعلها؟).
نجح "حمّى البحر المتوسط" في أن يستنفر تفكيرنا، نحن الذين شاهدناه ضمن عروض "قمرة" في مسرح المتحف الإسلامي في الدوحة، وأن يُربكنا، في التباسات بعض ما أراد أن يُرسِله إلينا، في اسمِه المحيّر، ودلالاتٍ غامضةٍ وظاهرةٍ لهذا الاسم، في جمال إيقاعه الجاذب، في مناورته في حضور الموضوعة الفلسطينية في خلف ما تابعنا من وقائع تتالت على الشاشة، أضحكنا كثيرٌ منها، واستثارت فينا أسئلةً، وأقلقنا البحثُ عن إجاباتٍ لها. وقبل ذلك كله وبعده، أبهحنا أن سينما فلسطينيةٌ جديدةٌ ومتجدّدة، مغايرةٌ لمعهودٍ وتقليديٍّ كثير، يجتهد صنّاعها في مغامراتهم الجمالية. نجح الفيلم الذي شاركت في إنتاجه "ميتافورا" (من فضاءات ميديا) في معادلة الإمتاع والمؤانسة في مقاربة زوبعةٍ من قضايا مصائر الإنسان ووجوده وقلقه، وبحثه، الخائب غالبا، عن معنى، سيما في زمنٍ يحدُث أن يُصاب واحدُنا فيه بمرض الجغرافيا ... كأن تكون مثلا من وطنٍ محتلٍّ على شاطئ البحر المتوسط.