حين تخدم العصبية الدينية المطلب الوطني
من الموضوعية القول إن للعصبية الدينية القوية للدروز الدور الأكبر في خروج كامل محافظة السويداء السورية ضد نظام الأسد في تظاهرات الأسبوع المنصرم، بعد إعلان شيخ عقل الطائفة، حكمت الهجري، تأييده الكامل مطالب المحتجّين، وبأعلى سقوفها السياسية، وهي رحيل نظام الأسد وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254؛ الأمر الذي شجّع أبناء المحافظة المتردّدين على الخروج إلى الساحات، وتحت راية الحدود الخمسة. يضاف إلى ما سبق رفعُ لافتاتٍ ترفض التقسيم وتقول بوحدة الشعب السوري، وأخرى تنتقد هيئات المعارضة في الشمال السوري، وثالثة تسمو فوق طروحات الإسلام السياسي، وفوق الطائفية، وتقول إن الدين لله والوطن للجميع، ورابعة ترفض الأجندات الخارجية، وغيرها من مطالب تناسب كل السوريين، وفوق ذلك تبنى أبناء المحافظة قضية إخراج الناشط أيمن فارس، ابن الساحل السوري، الذي اعتقل وهو في طريقه إلى السويداء، عبر اختطاف ضباط للنظام لمبادلتهم به. هناك في ساحة السير في السويداء، وكذلك في كل بلدات المحافظة، صارت حرية التعبير في الشأن السياسي مسموحة، حيث تُفتح النقاشات والانتقادات على المستوى الوطني وتطرح الخلافات بين أطياف سياسية مختلفة في المحافظة، وتُنتج كل يوم توافقاتٌ تقود إلى مزيدٍ من تنظيم الحراك وتطويره، حيث تطرح مبادرات عن إدارة شؤون المحافظة بمجلس مؤقت، فيما رجال الكرامة وغيرهم من المجموعات المسلحة ذات التنظيم المعقول، والتي تحظى بثقة الناس، هؤلاء يتولون مهمة الحفاظ على الأمن العام.
ما يجعل دروز سورية أكثر عصبية من غيرهم هو عددهم القليل نسبياً (أقل من 800 ألف نسمة، 3.2% من تعداد السكان). وفي الأصل، لا يتجاوز مجمل تعداد الدروز في بلاد الشام المليونين، وبالتالي هم كطائفة تخشى الانقراض، باتوا محافظين أكثر على قيمهم وأخلاقهم على مرّ العقود، هذا أولاً. وثانياً، أنهم يتركّزون في محافظة السويداء، ذات الطبيعة الجبلية، وهذا ساعدهم في قيادة حركات العصيان والتمرّد مراراً ضد السلطة العثمانية والاحتلال الفرنسي، ما أكسبهم خبرة تاريخية في إثارة الحماسة والنخوة بين أفرادها، وتلبية الدعوة إليها عند الحاجة. لكن تلك العصبية الدينية لم تقبل بدولة للدروز في الجنوب أيام الاحتلال الفرنسي، بل انضمت إلى الحركة الوطنية في دمشق وريفها بقيادة عبد الرحمن الشهبندر، وكان سلطان باشا الأطرش قائداً للثورة السورية التي أخرجت الفرنسيين من سورية. وبعد اندلاع الاحتجاجات في 2011، كانت هناك مشاركة بارزة لأبناء السويداء في التظاهرات وفي العمل العسكري. ولم تخرج كل المحافظة حينها، حيث كانت هناك فئات مؤيدة للنظام وأخرى تقف على الحياد وتبدي تخوفاً وجودياً، كباقي الأقليات الدينية من الأسلمة السياسية المتصاعدة في مناطق الثورة. خروج المحافظة بأكملها اليوم، وبهذا الشكل المنظم، ما كان ليتم لولا عدة عوامل. أولها: ظهور حركة مشايخ الكرامة المسلحة بقيادة الشيخ وحيد البلعوس، التي استطاعت حماية قرابة 40 ألف شاب رفضوا الالتحاق في الخدمة العسكرية، وأصبح اسمها رجال الكرامة بعد اغتيال البلعوس، في رمزيةٍ إلى أنها معنية بحماية كل أبناء المحافظة. وقد شجّع هذا على ظهور حركة "بدنا نعيش"، بمطالبها المعيشية، لكنها لم تتوسّع كثيراً. وكرد على هذا التمرّد كان للنظام رجالاته في المحافظة، من الدفاع الوطني المموّل من إيران والخارجين عن القانون ومروّجي المخدّرات، وهؤلاء مسؤولون عن الانفلات الأمني الحاصل خلال السنوات الماضية؛ لكن دخول مسلحي "داعش" إلى قرى البلدات الشرقية، وارتكاب مجازر، وتكاتف أبناء المحافظة لردعهم، عزّز ذلك حالة التضامن في المحافظة.
ما يجعل دروز سورية أكثر عصبية من غيرهم هو عددهم القليل نسبياً
العامل الثاني لخروج احتجاجات اليوم هو الوضع الاقتصادي المتردّي إلى أقصاه، والذي قد يقود إلى تفجير احتجاجات في مناطق سورية أخرى. أما العامل الثالث والأهم، فهو درجة ضعف النظام، والتي بدت واضحة مع فشل المبادرة العربية لإعادة العلاقات معه، وأن ذهابه بات فرق حسابٍ بين الأجندات الدولية والإقليمية، خصوصا بعد الاهتمام الأميركي المتزايد بالمنطقة، حتى لا تذهب إلى حضن الصين وروسيا، وبسورية للتضييق على المشاريع الإيرانية التوسّعية، وحماية أمن إسرائيل وتقليص تجارة الكبتاغون، إضافة إلى زيادة التقارب التركي الأميركي. دفع ذلك كله إلى استقراء اقتراب نهاية النظام، وهنا كان لانضمام الشيخ الهجري أهمية حاسمة في توسّع الاحتجاجات في المحافظة، والذي ترافق مع موقف مماثل لشيخ عقل الطائفة في فلسطين، موفق طريف.
النظام، وعبر أبواقه ومحلليه السياسيين، مهتم حاليا في تشويه الحراك في السويداء، بوصمه بالطائفية والمشاريع الانفصالية والأجندات الخارجية. ولا يبدو أنه سيستخدم الخيار العسكري، لأن الدم سيقود إلى تدخّلاتٍ دوليةٍ ليست في مصلحته، وإلى توسيع الاحتجاجات، لتشمل جرمانا وصحنايا وغيرها من المناطق التي يسكنها الدروز؛ هو يتعامل حاليا باللين، لكنه يملك أوراقاً، منها إحداث خلل أمني عبر تحريك رجالاته في المدينة، أو تنظيم داعش في شرق المحافظة. وقد يخنق المدينة ويقطع الخدمات عن المحافظة الطرفية، وهذا يشجّع فرصة دخول الأجندات الخارجية على الخط، ومنها بناء منطقة عازلة في الجنوب بقيادة التحالف الدولي، الأمر الذي لن يكون في مصلحة النظام نفسه.
النظام في سورية، وعبر أبواقه ومحلليه السياسيين، مهتمُ في تشويه الحراك في السويداء، بوصمه بالطائفية والمشاريع الانفصالية
لا تملك الأقليات الدينية في سورية، ومنها الدروز، مشاريع سياسية خاصة بها، وهي تميل إلى العلمانية في السياسة، وإن كان يميل متديّنوها ومحافظوها إلى إدارة شؤون طوائفهم الخاصة بما يتعلق بالأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والميراث وغيرها). وحتى العلويون، لم تصمد دولتهم في الساحل أيام الفرنسيين، وتمكّن رجالاتهم من السيطرة العسكرية على الجيش والأمن بعد السبعينيات عبر حزب البعث، القومي وضمن بلد فلاحي بغالبيته، وليس بمشاريع دينية، على عكس الإسلام السياسي الذي يملك رؤيته الخاصة للحكم، والتي لا تتوافق أيضاً مع الأكثرية السنّية في سورية؛ ولا يعلو صوت الطائفية في سورية إلا حين تتهدّد من الإسلام السياسي. وقد أحسن النظام السوري استخدام هذا البعبع الإسلامي، سواء لتوطيد حكمه منذ الثمانينيات، أو لمواجهة الاحتجاجات في 2011. وبالتالي، لا يمكن لاحتجاجاتٍ تخرج من الأقليات الدينية أن تحمل مشاريع سياسية خاصة بها، وتدرك أن مصالحها تأتي ضمن السياق الوطني.