حي الطفايلة إذ ينتصر لغزّة
إذا كان ثمّة حيّ يشار إليه بالبنان في الأردن، في الآونة الأخيرة على الأقل، فهو حي الطفايلة، وهو ليس حيّاً بالمعنى المتعارف عليه، بل وصفٌ لمكان نزحت إليه منذ عقود مئات العائلات من محافظة الطفيلة (جنوبي الأردن)، للعمل في العاصمة عمّان، فأصبح يُسمّى باسمها ولا يُعرف إلّا بهأ، رغم أنه يمتد على جبليْن من جبال شرقي المدينة، التاج والجوفة، فضلاً عن قسم من أراضي الأشرفية. وتلك كانت من مناطق الطبقة الوسطى في سبعينيات القرن المنصرم قبل أن تصبح شعبيّة، وأنشئ فيها في خمسينيات القرن العشرين أكبر المستشفيات الحكومية، وسُمي مستشفى الأشرفية قبل أن يتغير اسمُه إلى مستشفى البشير، تكريماً لوزير الصحّة محمد البشير الذي استشهد بمعيّة الملكة علياء في تحطّم المروحية التي كانت تقلها في عودتهما من زيارة تفقدية لمستشفى في مدينة الطفيلة عام 1977.
الحيّ مثقلٌ، إذاً، بمحمولات اجتماعية ذات صلة بانتقال سكّان الأرياف والمحافظات النائية إلى العاصمة، مع ما يحمله أولئك المهاجرون من قيمٍ حرصوا على المحافظة عليها، ومن خشيةٍ على ضياع الهوية الفرعية التي تخصّهم في مدينةٍ لا يعترف أحدٌ بأنه من أبنائها، فإذا سألتَ أحد العمّانيين عن انتمائه المكاني فإنه يعيدك إلى قريته أو مدينته الأم.
حافظ أهالي حيّ الطفايلة في عمّان على تماسكهم وتميّزهم، بما يشبه التنظيم المديني القائم على العشيرة، لا الطبقة أو التوجّه الأيديولوجي، وبرزوا في السنوات الأخيرة باعتبارهم قوة/ فوق أو تحت سياسية يُحسَب لها حساب، فنظّموا المظاهرات والمسيرات لهذا الشأن أو سواه، وتصدّروا المشهد الشعبي برمته في خصوص التضامن مع غزّة (يُقال في الأردن الوقوف مع الغزّيين لا التضامن معهم وحسب).
كان تجمّع أبناء الطفيلة أول جهة شعبية، ربما في العالم العربي كله، التي نهضت لإسناد أهالي القطاع الذين يتعرّضون لأبشع وأسوأ حملة إبادة معلنة منذ عقود، فبعيْد مجزرة مستشفى المعمداني في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قرّر القائمون على التجمّع الانتقال من التظاهر وتنظيم المسيرات إلى العمل الإغاثي، فأطلقوا حملات تبرّع عاجلة انتهت بشراء عربة إسعافٍ وتجهيزها بالمعدّات الطبية اللازمة، وإرسالها إلى قطاع غزّة، وتطلب هذا سفر أفراد من هذا التجمّع إلى مصر للتنسيق مع منظمة الإغاثة الإنسانية "أميال من الابتسامات"، لضمان وصول العربة إلى وِجهتها.
وقبل نحو أسبوع أو أكثر قليلاً، أعلن مستشفى كمال عدوان عن نقصٍ حادّ في حليب الأطفال، ما تسبّب في عدّة وفيات، وعلى الفور تواصل شبان تجمّع أبناء الطفيلة مع إدارة المستشفى ونجحوا في إيصال عبوات حليب إليهم. وكانوا قد فعلوا ذلك خلال محاصرة القوات الإسرائيلية مستشفى الشفاء (نهاية أكتوبر/ تشرين الأول حتى 18 نوفمبر/ تشرين الثاني)، حيث نجحوا في إيصال نحو خمسة آلاف عبوة حليب إلى المستشفى، وفعلوا ذلك بمعزل عن أي دعم حكومي محلّي أو من دول الجوار، وبفضل مبادرات فردية كابدت كثيراً لإنفاذ مهمّتها في ظل فوضى سياسية وتعقيدات إدارية (على الحدود المصرية تحديداً) لا يعرف سوءَها إلا من تعامل ويتعامل معها.
ولم يقتصر الأمر على حليب الأطفال أو العبوات الغذائية، بل شمل أيضاً ما هو بسيط لكنه عظيم في معناه، كأن يُنسّق شبان التجمّع مع مصارف أو أشخاص في مصر وداخل القطاع لإيصال مبالغ مالية لهم لشراء عجول وتوزيع لحومها على الغزّيين، وذهب الطموح بهؤلاء إلى التخطيط لإرسال سفينة مساعدات إلى قطاع غزّة، وهو ما لا تستطيعه أو لا ترغب بالقيام به للأسف دول أو هيئات شعبية عربية تتوفّر ميزانياتها على مئات آلاف الدولات لكنها تفتقر إلى الإرادة المُحبّة والمخلصة لواحدة من أنبل قضايا العرب عبر تاريخهم.
أكثر التقديمات قيمةً تلك التي تكون في وقتها، وقيمتها في رمزيّتها وأن القائمين عليها يعانون مثل غيرهم من ضيق ذات اليد، مثل أبناء حي الطفايلة، لكن هؤلاء الذين هاجروا من مدينتهم وقراهم النائية ظلّوا الأكثر غنى بتمسّكهم بقيم المجتمعات التي جاؤوا منها، والقائمة على مفاهيم تكاد تنقرض من حياتنا المعاصرة، مثل النخوة والمروءة، وأبناء الطفيلة ضربوا المثل وقدّموا النموذج بأن ثمّة حياة هنا في هذا الجسد العربي الضخم الذي تحوّل إلى جثةٍ تنتظر من يدفنها.