حَدَثَ في انتخابات المغرب
لا أحد، في المغرب وخارجه، توقّع أن يتصدّر حزب العدالة والتنمية (الإسلامي) نتائج الانتخابات التي انتظمت في 8 سبتمبر/ أيلول الحالي. ولا أحد أيضا، في المغرب وخارجه، توقّع النكسة الأكثر من كارثيةٍ للحزب في اقتراع هذه الانتخابات التي جرت ثلاثيةً لأول مرة في تاريخ المغرب، التشريعية والبلدية ومجالس الجهات، وقد اصطفّ في المنزلة الثامنة في كل واحدة، لمّا سبقتْه الأحزاب الكبرى أو الوازنة، إن جازت هذه الأوصاف (الأرجح أنها لا تجوز على كل الأحزاب السبعة). ولمّا لا يعودُ في وسْعه أن يشكّل كتلةً نيابيةً وحده بمقاعده الـ13، ليس لأمينه العام، رئيس الحكومة قيد الانصراف، سعد الدين العثماني، واحدٌ منها، بعد خسارته في دائرته في الرباط، كما خساراتُ زملاء له وازنين في الحزب، وكما خساراتٌ شديدة الفداحة لرئاسات مجالس بلديات مدن وحواضر كبرى، كان "العدالة والتنمية" قد تربّع في مقاعدها الأولى، فلا يكسب في نازلة الأربعاء الماضي سوى 777 موقعا فيها، فيما الحزب الأول في مجلس النواب الجديد، التجمّع الوطني للأحرار (102 مقعدا نيابيا) يُحرز 9995 موقعا في المجالس البلدية.
أن تقول قيادة "العدالة والتنمية"، المستقيلة أول من أمس، إن "النتائج غير مفهومة وغير منطقية" فذلك يؤول إلى الصدمة التي أحدثتها ضربة الهزيمة النكراء (عذرا للوصف التقليدي هذا). ولكنها عندما تعتبر أن هذه النتائج "لا تعكس الخريطة السياسية" في البلاد، و"لا موقع الحزب ومكانته في المشهد السياسي"، فإنها تجنح إلى تطييب خواطرها، قبل أن تعلن أنها في طوْر مراجعةٍ لما حدث. أما أسباب ما وُصف، عن حق، انقلابا انتخابيا في المغرب، فكثيرةٌ، ليس منها ما استطاب بعضُهم (في خارج المغرب غالبا!) قولَه عن "إسلامويةٍ" عوقبت في مسارٍ من انحسار الإسلام السياسي في العالم العربي، فالذي حدث أن حزب عبد الإله بنكيران وسعد الدين العثماني لم يخسر لأنه إسلامي، وإنما لأن أغلبية المغاربة الذين صوّتوا (نحو 50% من المسجّلين) لم يجدوا أسبابا لديهم لمكافأته بولاية حكومية ثالثة، على منجزاتٍ لم يعاينوها ولم يستشعروها في عشر سنوات مضت، بعد حصيلة ولايتين جاءت على غير ما كانت الرهانات والانتظارات. فضلا عن أن أوضاع "العدالة والتنمية" الداخلية نفسها، في مبناه القيادي خصوصا، غير مستقرّة. وإلى أسبابٍ أخرى (ليكن منها إمضاء العثماني اتفاقية السلام مع إسرائيل، بأمر من الملك)، منها إيلاء الحزب متطلبات الدولة، والسلطة العليا للعرش، الأولوية على إرضاء الجمهور العام والناخبين والقواعد، ثمّة الدعاية الانتخابية الموفقة التي أدّاها حزب التجمع الوطني للأحرار، بزعامة وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات (هذا اسمها)، الملياردير، عزيز أخنوش، وكذا حزب الأصالة والمعاصرة. واللذين نجحا في استمالة المفاتيح الانتخابية من أعيان المدن والبلدات، وفي استخدامات شبكات التواصل الاجتماعي، وكذلك من قبل ومن بعد، في حملةٍ قويةٍ على "العدالة والتنمية"، وصلت إلى "شيطنته" أحيانا، ما جعل دعايتَه الانتخابية دفاعيةً وتبريرية ومهزوزة. أما حكاية المال واستخدامه فلم تخلُ منها أي انتخاباتٍ سابقة في المغرب (وفي غير المغرب؟).
لمّا كان الحزب الإسلامي يتدرّج في الصعود إلى صدارة المشهد السياسي، منذ انتخابات 1998، والتي شارك في دوائر محدودة فيها، وكسب ثمانية مقاعد، وصولا إلى 125 مقعدا في انتخابات 2016، كانت الأحزاب المناهضة له، وبعضُها تاريخي وصاحب محطّات وأدوار مشهودة في بناء الدولة المغربية، تتراجع القهقرى، سيما "الاتحاد الاشتراكي"، لأسبابٍ وفيرة، منها ما قد نقع عليه بشأن "العدالة والتنمية" في انتكاسته المذهلة الطازجة. من قبيل الخلافات القيادية، و"التصويت العقابي" والإخفاق في عدّة ملفاتٍ في أثناء تولّي مسؤولياتٍ حكومية. ولا يجوز أن تُغفل هنا، في الوقت نفسه، ما أعملتْه أصابع الدولة العميقة، والتي كان بنكيران يسمّيها "التماسيح والعفاريت"، إبّان تولّيه رئاسة أول حكومة بعد دستور 2011. وليست منسيةً قصة "البلوكاج" الحكومي بعد انتخابات 2016، والتي انتهت بفرض حزب التجمع الوطني للأحرار، وكان في المنزلة السابعة (!)، شروطَه ودخوله في الائتلاف الحكومي، وإزاحة بنكيران عن رئاسة الحكومة، والإتيان بالعثماني، الأضعف جماهيرية وقيادية.
ستتوالى تداعيات المنعطف، أو الارتداد، الانتخابي في المغرب، إقليميا وعربيا. ولكن، الداخل المغربي، وهو الأدعى إلى الانتباه، طالما شهد صعود أحزابٍ إلى الذرى ثم سقوطها في القاع، وهكذا دواليك .. وقصّة هذا المسار شرحُها يطول.