خرافاتُ البحر الأحمر وأباطيلُه
منذ بدأ الحوثيون هجماتهم في البحر الأحمر على السفن الإسرائيلية أو تلك المتّجهة إلى إسرائيل في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي ردّاً على حرب الإبادة في غزّة، وضغطاً على العالم لإدخال المساعدات إلى القطاع المُحاصر، تسلسلت ردّات فعل يمنيّة وعربيّة شتى يستحق منطقها إمعان النظر فيه.
لنبدأ بواحدة من الخرافات المكينة في مقاهينا ومجالسنا العربيّة، وهي "المسرحية". خلاصة وجهة النظر هذه أن ما يحدث في البحر الأحمر ما هو إلا مسرحيّة بين الولايات المتحدة والحركة الحوثيّة، غرضها "تلميع" أميركي للحوثيين يمنياً وعربياً. هذه الخرافة منتشرة بين القطاعات الشعبية اليمنيّة المعادية للحوثيين، وهي ظهرت الآن كما تظهر دائماً حين يعجز العقل عن حلّ التناقض بينه وما يحدُث في العالم: الحوثيُّون الذين نَكَبوا اليمنيين نكبةً لم يعرفوا لها مثيلاً في تاريخهم الحديث، ويقترفون في حقّ اليمنيين الحصار والتقتيل والإذلال، كيف لهم، إذن، أن ينصروا غزّة؟ ثم إن الولايات المتحدة تؤيد، بدم قلبها، حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، ومن ثم، إن من تضربه وتعاديه الآن هو فعلاً يضرّ بالمصالح الإسرائيلية. كيف السبيل إلى توفيق الأمريْن معاً؟ لا يكون حل هذا التناقض إلا بافتراض اتفاق الطرفين على هذا الأمر برمّته تحقيقاً منهما لمصالح مشتركة يصعب على أي عاقلٍ تحديدها. وهكذا يُفكك التناقض ومعه يرتاح هؤلاء من أتعس كوابيسهم: أن تحتضن الحوثيَّةَ شرعيّةٌ عربيّة وإسلاميّة ماحقة تؤبّد حُكمها في اليمن.
في محطّاتٍ متباعدةٍ، ظهر بجلاء أن أميركا ترى للحوثيّة دوراً صغيراً في الإقليم ينبغي الاعتراف به والاستفادة منه
لا توجد في العموم مسرحيّاتٌ في السياسة الدوليّة، هذا علاوة على أن فكرة "المسرحيات" مطواعة، ويمكن بها تفسير كل شيء (بما فيه مواقف معتنقيها)، وهذا يعني أنها لا تُفسّر شيئاً. في يوميات السياسة اتفاقات وتحالفات حتى مؤامرات، وثمّة خداع ورفع لشعارات والعمل بما يناقضها، ولكن لا تتصرّف الدول ولا تتخذ سياساتٍ واضحة بعكس ما تُضمِر، خصوصاً إذا كان ثمّة حرب في المسألة. السياسة في الحقيقة أخطر من ذلك، والدول، بما هي مجموع مؤسّسات بشريّة، أضعف من ذلك. ثمّة "أدوار" تلتزم بها الدول بناءً على مزيج من استراتيجياتها وظروفها، حتى لو قرّر طرفان أو أكثر اتّخاذ سياساتٍ مسرحيّة، فإن عقابيلها التي لا يمكن لبشرٍ حصرها لن تكون مسرحيّة، بل ستخرج على السيطرة وتصبح واقعيّةً وصادقةً موضوعيّاً.
لا تشيع هذه الفكرة بين اليمنيين في مجالسهم فحسب، بل تمتدّ إلى سياسيين ووزراء سابقين، ويواجه هؤلاء تناقضاً إضافيّاً يُربِكُهم، وهو العلاقة الشائكة بين الغرب والحوثيين. كل من قرأ شيئاً معقولاً عن السياسة اليمنية يعرف أن الولايات المتحدة لم تتّخذ من قبل موقفاً عدائيّاً من الحوثيين، بل على العكس، في محطّاتٍ متباعدةٍ، ظهر بجلاء أن أميركا ترى للحوثيّة دوراً صغيراً في الإقليم ينبغي الاعتراف به والاستفادة منه؛ ليس باعتبارهم أصدقاء، بل خصوم عقلاء أثبتوا أنهم قد يصبحون حلفاء في بعض المسائل؛ محاربة التنظيمات الجهاديّة الإرهابية مثلًا. هذا التصوّر الأميركي شكّلته شبكة روافد تتجاوز معطيات الواقع اليمني إلى استراتيجيات أميركا في العالم وأولويّاتها ومقاربتها لموضوع الإرهاب ورؤية مؤسّسات الدولة الأميركية للشرق الأوسط، وهذه الأخيرة لا تستند إلى تجارب تاريخية فحسب، بل على مُتَّكأ ثقافي كَوّنَه تنظيرٌ وكتبٌ وندواتٌ منذ أيام حصار العراق، ثم احتلاله، عن المذاهب الإسلامية والإرهاب وإيران وأشياء أخرى. لا يُطيق بعضهم هذا التصوّر المتشابك، ويفضّل الذهاب إلى الأقاصي المريحة: إما اعتبار الحوثيّة عدوّة أميركا اللدودة، وبينهما حرب وجود (وهؤلاء أنصار الحوثيّة) وكل الوقائع التي تدلّ على تفاهمهما تُقصى تماماً من الحساب كأنها لم تكن، أو أنهما حلفاء وأصدقاء في السرّ (وهؤلاء خصومها) وكل ما نراه الآن من توتّر عسكري بينهما ما هو إلا تمثيليّة رديئة.
تيه السياسة داخل اليمن، وفي المجال العربي إزاء غزّة، وحجم المقتلة والإبادة، يصعّبان المواقف المركّبة
على الجانب الآخر، وعربيّاً هذه المرّة، نحن شهودٌ على إيهام ذاتيّ مذهل يتحدّر من الإشكال ذاته؛ وهو اعتبار الحركة الحوثيّة، نتيجة ما فعلته إزاء غزّة، حركة مناضلة يجب الوقوف بجانبها عموماً في الصراع اليمني. لا أناقش هنا حالة أنصار الحوثيّة المنضوين تحت لواء محور الممانعة، بل أولئك الذين دفعتهم حرب غزّة، أخيراً، إلى هذا الموقف. إنه مرّة أخرى العجز عن حلّ تناقضات الواقع أو تناقض الأخير مع طرائق التفكير. فإذا كانت فلسطين هي قضيّة العرب الأولى، وإذا كان ما يحدُث في غزّة حرب إبادة لم تشهد فلسطين لها مثيلاً في تاريخها الحديث، فكيف يمكن تعقّل أنّ الطرف العربي الوحيد الذي يقف مع المقاومة في غزة وقوفاً فاعلاً ومؤثراً هو نفسه من يرتكب كلّ الفظاعات في حقّ شعبٍ آخر هو الشعب اليمني؟ ليس أمام طريقة التفكير هذه، باستثناء الفاشيّة واعتبار اليمنيين هوامَّ بشرية تستأهل السحق، إلا تعبيد الواقع وإعادة كتابة التاريخ الراهن من جديد واختراع باطل جريء فحواه أن الحوثيّة أصلًا ليست مليشيا طائفيّة -عرقيّة تتحمل وزر الحرب الأهلية في اليمن وهدم الدولة وتمزيق المجتمع، بل هي حركة سياسية مظلومة وبطل درامي تآمر عليه العالم وشوّهه.
السؤال المتوقّع الآن: لماذا أمام تناقضات الواقع احتاج كثيرون إلى الخرافات والأباطيل؟ لماذا لا يمكن للمرء أن يعترف، بدون تعامٍ، بتأثير ما يفعله الحوثيُّون في البحر الأحمر واقعيّاً، ومن دون إعطاء شرعية للحوثيّة من مقتضيات الاعتراف بذلك التأثير؟ هذا سؤالٌ كبيرٌ تفحصه أبحاث، وما يمكن الإشارة إليه في هذا الختام أنّ اتّباع طريق الاكتفاء مبدئيّاً بتقبل التناقضات يدفع تالياً إلى مراجعة طرائق التفكير وأمور راسخة في رؤية الواقع، مثل تصوّراتنا عن السياسة والأعداء، حتى فحص فهمنا للخير والشر، وهذه تأملاتٌ مؤلمة وصعبة، كما أن تيه السياسة داخل اليمن، وفي المجال العربي إزاء غزّة، وحجم المقتلة والإبادة، يصعّبان المواقف المركّبة، وزاد الأمر سوءاً أن كثيرين من مُسَيّسينا ومثقفينا الذين يُفترض بهم قيادة الرأي العام في هذه العملية الصعبة والزمن الأصعب وضرب المثال في كيفية التعامل مع تناقضات العالم بصوغها داخل مركّبات تعترف بها وتستوعبها، قد استقالوا من إحدى مهامهم التنويريّة الأساسيّة، وكانوا هم أوّل من ذهب إلى الأقاصي هرباً منها.