خطوات أخطر رجل في العراق اليوم
كُشفَ، أخيرا، عن قدرة الزعيم العراقي الشيعي، مقتدى الصدر، وهو الذي يعدّ أخطر رجل في العراق اليوم، إذ نجح في خطواته على تغيير الديناميكيات السياسية في جميع أنحاء العراق. ويتبيّن أنّ التيار الصدري وتحالف تقدّم وعزم السني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وفصائل أخرى أصغر، قد صوّتوا لمحمد الحلبوسي لرئاسة مجلس النواب ثانية في جلسة برلمانية مثيرة، يوم 9 يناير/ كانون الثاني الحالي، في حين امتنع إطار التنسيق عن ذلك، ومررّوا مسرحية هزلية سخيفة كان بطلها رئيس السن، محمود المشهداني الذي افتضح أمره! وقد أدّى التصويت إلى زيادة الانقسامات داخل المنظومة السياسية الشيعية. وسواء اتفقنا مع الصدر أم اختلفنا، يجب الاعتراف بانتصاره، إذ عرف كيف يدير اللعبة، مع انتقاد ما فعله أنصاره النواب الجدد بلبسهم الأكفان تحت قبة البرلمان.
وبحسب الدستور العراقي البائس، أمام مجلس النواب ثلاثون يومًا من الجلسة الأولى لانتخاب رئيسٍ جديدٍ للبلاد، والذي سيطلب من الكتلة الأكبر في البرلمان تشكيل الحكومة. ولا توجد ملامح أيّ اتفاق بين القوى السياسيّة الرئيسية في العراق على شخصيّةٍ بذاتها لرئاسة الحكومة. وكان الصدر قد طالب بألا يكون الوزير أو النائب تابعاً لحزب ضمن نظام محاصصاتي، اذ تركّز النظام السياسي ما بعد عام 2003 في العراق على ترتيب غير رسمي لتقاسم السلطات العليا بين الشيعة والسنة والأكراد. وكان النظام ولم يزل فاشلاً، اذ يخلو من أيّة وطنيّة في توزيع السلطات والمناصب، فهل سينجح الصدر في إصلاح النظام أم أنّ كلامه مجرّد تسويقٍ سياسيٍ؟ ولكنه انتصر في خطوته ضد "إطار التنسيق" الذي يمثل كتلة متحالفة إلى حد كبير مع إيران. الموقف ملتهب اليوم، إذ ينقسم التمثيل السياسي للطائفة الشيعية بوضوح إلى كتلتين رئيسيتين. يمثل أولاهما التيار الصدري، بقيادة مقتدى الصدر، والمتميز بعدد مؤيديه بالملايين. وثانيهما الكتلة الشيعية الأخرى التي سموها "إطار التنسيق''، وهو تحالفٌ فضفاضٌ وهزيل من بقية الأحزاب الشيعية التي كانت قد مارست الحكم الفاشل سابقاً، ويضم رئيسي وزراء سابقين وشخصيّات سياسيّة شيعية ومليشيات ولائية مؤثرّة أخرى. ويعدّ هذا التحالف خصماً شديداً للصدر في خطواته المنتصرة. وقد توعّدهم، قبل انتخابات أكتوبر 2021، بأنّ تيّاره سيكون الكتلة الأكبر. وفعلاً كسب الرهان، وحصل على أعلى عدد من المقاعد، فجنّ جنون "إطار التنسيق"، خصوصاً أنّ الصدر نجح في تجسير الفجوة الشيعية السنية، كما نجحَ في إعادة الثقة بين العراق والعرب!
وكما جرى انقسام في المنظومة الشيعية وحدوث انقسام مماثل بين الأكراد، أي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني، بقيادة مسعود البارزاني لصالح التصويت، في حين انضم الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) إلى الإطار التنسيقي في مقاطعة التصويت، ونجح العرب السنّة في أن يكونوا معاً بتحالف عزم وتقدّم. لقد وصف الصدر التصويت بأنّه "خطوة مهمّة نحو تشكيل حكومة أغلبية وطنية"، وهي أغلبية سياسية بالأحرى، في حين اقترح "إطار التنسيق" خيارًا واحدًا فقط يتمثل بتشكيل حكومة توافقيّة. رؤية الصدر في تشكيل حكومة أغلبية تعني الوصول إلى الفائزين الرئيسيين داخل المجتمعات السنية والكردية والشيعية، مع استبعاد القوى السياسية الأخرى عبر الطيف. كي يضمن ايجاد حكومة مسؤولة وفعّالة، تقوم بمهام وتوقعّات ومسؤوليات واضحة، إلا أن هذه الرؤية مرفوضة من الإطار التنسيقي وكلّ أصحاب المصالح من الطبقة السياسية التي تبلورت منذ الاحتلال في العام 2003.
إن لم يتم تضمين الصدر في الحكومة المقبلة، وتحقيق رغبته بحكومة أغلبية، سوف يهيمن إطار التنسيق والمليشيات الموالية له على العراق
الصدر جادٌّ في تشكيل حكومة أغلبية، الأمر الذي من شأنه أن يخرق المنظومة السياسية، ويبعد الأوليغارشيات العميلة المرتبطة بإيران، ويشلّ قدرتها عن الحركة. وقد وجد السنة العرب فرصتهم مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتأييد الصدر في التصويت لمنصب رئيس مجلس النواب. أما الخطوة الأخرى فهي الأصعب جدا والأكثر تعقيداً، وخصوصاً في انتخاب رئيسي الجمهورية والحكومة. وعليه، ستعتمد أيّ حكومة أغلبية سياسية صدرية على دعم الحزب الديمقراطي الكردستاني والتحالف السني الجديد بين "تقدّم" و"عزم". وعليه، إذا نجح الاتحاد الوطني الكردستاني بالتحالف معهم، فيمكن للصدر أن يؤسّس حكومة عراقية جديدة. ولمّا كان الصدر قد نجح في رهانهِ، فهل يمكنه التراجع عن رؤيته لكي يدخل توافقياً مع "إطار التنسيق"؟ الجواب هو لا، ولكن إذا نجح في كسر الإطار التنسيقي يمكنه سحب أحد الأطراف إلى جانبه.
سيواجه الصدر عدة تحدّيات أساسية، تقف في طريق تحقيق خطواته، وهو صامد إزاء ما يواجه من مؤامرات ومناورات لقوى وأحزاب يعارض سياساتها منذ زمن بعيد، وهو يدرك حملاتها المسعورة من أجل السلطة، كونها اعتادت النهب المنظّم وإبقاء العلاقة الذيلية مع إيران! المشكلة الأخرى تتمثل بالخوف الجمعي من تراجع الصدر عن رؤيته، ولكن يبدو أنه قد تحّول إلى أسلوبٍ جديدٍ في التعامل مع العراقيين، إذ تحوّل من رجل مليشيات إلى رجل سياسي. والأمر الثالث أنّه الزعيم الشيعي الوحيد الذي باستطاعته التفاهم مع العراقيين، وخصوصاً من العرب السنة أو الأكراد. وعليه، إذا نجح في خطواته بتشكيل حكومة أغلبية فسيخلق تنوعاً عراقياً بعيداً عن هيمنة الطيف الواحد منذ العام 2003. وستُخلق لأوّل مرّة معارضة سياسيّة عراقية في البرلمان، وهو أمر مهم جداً في التطور السياسي. وقد هدّد الصدر بأنه في حالة عدم تشكيل حكومة أغلبية غير توافقية، فسيكون هو من يمثل المعارضة السياسية، وهذه خطوة تُحسب له لا ضده.
يرى مراقبون أن الصدر يعلم أنّ انتصاره حصل، إلى حدّ كبير، بسبب تعامل تياره الماهر مع القوانين الانتخابية الجديدة
يبدو واضحاً أن رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، وهو الخصم الشخصي للصدر، يعمل المستحيل من أجل الهيمنة على السلطة، وإغراق العراق في موجةٍ كاسحةٍ من التشنّجات الطائفية والمفاسد الاقتصادية. ولا يخلو التيار الصدري من الفاسدين، والصدر لم يعالج بقوة وجود الفاسدين والفاسدات بحزم وقسط، فهل سيتبع السياسة نفسها، أم سيكون سيفاً مسلطاً ضدّ الفاسدين من التيار الصدري وغيرهم المنتشرين في كلّ القوى السياسية المنحرفة؟ وعليه، يتطلع العراقيون اليوم إلى حكومةٍ تقوم على قاعدة منضبطة، وتمارس قوّتها ضدّ كلّ الضالين والمرتزقة والجماعات المرتبطة بإيران. ويرى مراقبون أن الصدر يعلم أنّ انتصاره كان، إلى حدّ كبير، بسبب تعامل تياره الماهر مع القوانين الانتخابية الجديدة.
أخيرًا، إن لم يتم تضمين الصدر في الحكومة المقبلة، وتحقيق رغبته بحكومة أغلبية، فسوف يهيمن إطار التنسيق والمليشيات الموالية له على العراق الذي سيبقى يدور في دوامته المظلمة، إذ سيسمح للمليشيات بمواصلة العمل خارج قوات الأمن العراقية من دون خضوعها لنفوذ الحكومة. ولن يتم تجريدها من الأسلحة المحمولة بلا تراخيص، وسيخيّب الصدر آمال المؤيدين العرب والدوليين الذين رأوا فيه وسيلةً للحد من نفوذ الجماعات المسلحة الموالية لإيران.
ختاما أقول: لن يتم إصلاح الوضع في العراق بسهولة أبداً، وقد فقد الناس حتى بصيص الأمل بإنهاء هيمنة طبقة معينة على الحكم ضمن نظام سياسي سيطروا على مقاليده، وأتاح لهم نهب العراق وموارده، فالمطلوب من الحكومة الجديدة محاكمة كلّ الفاسدين والمجرمين والقتلة.