خلافة السيستاني والآليات المفقودة
تاريخيا، ظلت العلاقةُ بين المرجعية الدينية الشيعية والحكامِ في بغداد أو طهران أو إسطنبول حذرةً أو متوترة في الغالب، إلا أن دلالاتٍ مختلفةً حملتْها رسالةُ آخر شاهات إيران، محمد رضا بهلوي، إلى المرجع محسن الحكيم في النجف العراقية للتعزية بوفاة زميله في قم الإيرانية آغا حسين بروجردي عام 1961. وُصفت الرسالةُ بالمؤثِرة في دعم سلطة طهران للحكيم على حساب منافسيه. لم يأت الدعم باكرا. واستمرّ الصراع على الزعامة بين الحكيم والآخرين في النجف وقم نحو 15 عاما.
بمعزل عن الخوض في أيّ جدل عما إذا كانت رسالةُ بهلوي حاسمةً أو مجرّدَ داعمة، فإنها تؤشّر إلى رغبة طهران، وقتئذٍ، في دعم مرجع لم يهتم بالداخل الإيراني. الحكيم، بحكم كونه عراقيا، لم تُعرف عنه مواقفُ تجاه التغييرات والصراعات في إيران. التواصل الوحيد المعروف بينه والشاه كان رسالة عام 1967، دعاه فيها إلى نصرة القضية الفلسطينية بدايةَ حرب النكسة، علما أن إيران عُدّت ثانيَ دولة ذات غالبية مسلمة، بعد تركيا، اعترافا بإسرائيل رسميا. المهم، كان وجودَ الحكيم مثاليا بالنسبة إلى المملكة البهلوية، إذ مثّل ضربةً صريحة لعلماء دين إيرانيين لهم مطالبُ سياسيةٌ ودينية تهدّد سياسات الحكم، فأوساط دينية كثفت نشاطها سياسيا مقابل المملكة القاجارية نجَمت عنها أحداثٌ عديدةٌ من بينها إنشاء حوزة قم في عشرينيات القرن الماضي، وما تلا ذلك من صداماتٍ في العهد البهلوي.
ليست الحكاية في هذه النقطة، رغم أهميتها في قراءة العلاقةِ التاريخية المعقدة بين النجف من جهة وطهرانَ القاجارية ـ البهلوية وإسطنبولَ العثمانيةِ، فضلا عن بغدادَ من جهات أخرى. المسألة الأكثر تعقيدا في الحكاية أن الصراع على الزعامة تأكيدٌ صريح لغياب آلية اختيار "المرجع الديني الشيعي الأعلى". ولا يشبه الأمرُ الفاتيكان مثلا؛ يَنتخب مجلسٌ مغلق في اجتماعات مطولة أو قصيرة خليفةَ بابا متوفى أو مستقيل. ولا يشبه الأزهر؛ يعيّن الرئيسُ المصري منذ عام 1961 شيخَه. القاعدةُ الفقهية في الحوزة لتحديد ما يُعرف بمرجع التقليد الأعلى، أيْ عالمَ الدين المتبوع من المتدينين، تقتصر على عموميات بلا آليات.
طالما كانت الإجاباتُ داخل المنظومات العقائدية محضَ مساعٍ إقناعية، فالتضاد بشأن الزعامة تحكمه شروطٌ ومصالح وتعقيدات أخرى
ببساطة، بابُ "التقليد" الفقهي ووجودُ مرجع بلقب الأعلى أو الأعلم بندان حديثان في المذهب الجعفري. بدايتُهما ليست بعد "غياب" المهدي كما يُدعى داخل الخطاب الإعلامي للمنظومة. لا يزيد العمرُ الحقيقي للفكرة عن قرنين ونصف القرن حين حُسمت معركةٌ فقهية عرفت بصراع الإخباريين والأصوليين. ثم تبلورتْ مع بروز نزاعاتٍ ومواجهاتٍ مقابلَ أفكار جديدة مثل البابية في شيراز والحجتية في أصفهان وخراسان، ثم الإعلانِ عن دين البهائية الجديد في بغداد، فمن الناحية التاريخية، ظهرت منهجيةُ التقليد مع أحد فقهاء المذهب الجعفري في القرن التاسع عشر وهو مرتضى الأنصاري، ومهّدَ لها قبلَه أستاذُه جعفر الجناحي النجفي المعروفُ بكاشف الغطاء. قبل ذلك، لم ينظَّر بتاتا لمبدأ المرجعية والتقليد. استخدامُ وصف آية الله العظمى على نطاق واسع أجدد من ذلك، يعود إلى القرن العشرين.
جِدةُ الفكرة أخرَجَتها عنوانا عريضا فاقدا للآليات والتأصيل، ما تركَها عرضةَ صراعات وتنافسٍ على الزعامة. لم يتسنّ في خضم النزاع وضعُ آليات، لأن نصوصَ تأسيس الشيعيةِ الإثني عشرية/ الجعفرية، مقابل الشيعيات الأخرى الزيديةِ والإسماعيليةِ مثلا، ركّزتْ حصريا على تحديد آليات اختيار خلفاء النبي من وجهة نظر الإمامية التي لم تُخف اعتمادها على التسلسل الوراثي. لهذا، لم يكن النزاع بين الحكيم ومنافسيه على مدى عقد ونصف العقد الوحيد. مرّت التجارب السابقة واللاحقة بالمشكلة نفسها؛ إن وفاة مرجع ديني تُخلّف صراعا على الزعامة لا ينتهي إلا ببقاء واحدٍ منهم حيا بعد وفاة آخرين. هناك، في الغالب، تنظيرٌ ثيولوجي يتمثل في أن الله يتكفّل بتمهيد الطريق لمن يريده بعنايته ولطفه. هذا هو الجواب النظري الوحيد على الأسئلة المطروحةِ استغراباً أو استفساراً أو استنكارا. وطالما كانت الإجاباتُ داخل المنظومات العقائدية محضَ مساعٍ إقناعية، فالتضاد بشأن الزعامة تحكمه شروطٌ ومصالح وتعقيدات أخرى.
ستشهد خلافة السيستاني مواجهة تمتد سنواتٍ حتى الحسم، وربما سيكون آخر مرجع موحد في النجف
المرجع الحالي علي السيستاني مثالٌ حيّ على طبيعة شقاقٍ ظهر مع بداياته، وسيدور على من سيخلفه. عام 1992، بعد وفاة آية الله الخوئي، طُرح اسمُ السيستاني، ما أثار استغرابا: أولا، لوجود رجالٍ دينٍ أكبر عمرا ومكانة، وثانيا، لظهورِ تشكيكٍ في كفاءة الرجل وفق العناوين العريضة المعتمدة داخل المؤسسة الدينية (الحوزة) لتحديد المرجع الأعلى. وقتها انتقد مُجايلون للسيستاني طباعةَ مؤلَفٍ تضمّن بعضَ آرائه في أصول الفقه بعنوان "الرافد" لأنه فقير، ما اضطر وكيلَه الأقوى، صهرَه جواد الشهرستاني، إلى سحبه من الأسواق.
يومها، عملت الأوساطُ الدينية والإعلاميةُ الإيرانية، وقيل إن المخابرات كانت وراءها، على ترويج عدم كفاءة النجف في قيادة المشهد الديني، وطرحتْ بدائل من قم عام 1995 نَشرت صحيفةُ كيهان القريبة من المرشد الإيراني أسماءَ سبعةِ مرشّحين بعد وفاة آخر تسعينيي العمر. ستةٌ منهم في إيران، بينهم خامنئي، وواحد فقط كان يسكن النجف هو السيستاني، وُضعتْ صورتُه في آخر التسلسل، غير أن السلطة في طهران والحوزةَ واجهتا في تسعينيات القرن الماضي مشكلةَ ظهور مرجع ديني خارج النجف وقم، قدّم نفسه بديلا. آية الله محمد حسين فضل الله كان تحدّيا. بدأت زمن تصعيد عنيف ضد فضل الله بذريعة آرائه غيرِ المتوافقة مع السائد، وشُنّت عليه حملةُ تكفير. ثم طفَت أزمة أخرى مع آية الله محمد محمد صادق الصدر (والدِ مقتدى) المنظّرِ لولاية الفقيه القُطرية والرافضِ زعامةَ خامنئي ومرجعيةَ السيستاني في آن. كانت سنواتِ صراع حادّ، خرَجَ منها السيستاني نافذا بفعل عواملَ موضوعيةٍ، بلغت ذروتَها مع الغزو الأميركي وسقوطِ نظام الرئيس الأسبق صدّام حسين. في النهاية، لم يعلُ كعبُ السيستاني وفق مقاسات ثابتة، إنما بسبب الظروف الموضوعية ودعمِ لوبيات تُعرف بـ"شبكة وكلاء المرجعية" في ترويجه، وليس لغيره من منافسيه آنذاك.
ظلت مواقفُ السيستاني على مدى سنوات عراق ما بعد صدّام جدلية. من جهةٍ، لا يمكن نفي أنه نأى بأتباعه عن الانجرارِ إلى حرب طائفية واسعة والقيامِ بمواقف عنيفة مقابل جرائم تنظيم القاعدة وحلفائِه الطائفية منذ أغسطس/ آب 2003، أو استجابةً لجرائمِ جيش المهدي الطائفية منذ فبراير/ شباط 2006. من جهة ثانية، كان إصرارُه على انتخاباتٍ سريعةٍ ودستور فوري استعجالا أضرّ باستعدادات البلاد لإيجاد خياراتها. من جانبٍ ثالث، كرّست مواقفُه الداعمةُ قوى الإسلام السياسي الشيعي سلطانَها. تلك التناقضات لا تمنع القولَ إن النجف لعب دورا مهما في السنوات السبع الأخيرة في مواجهة خامنئي. وسواء كان ذلك صراعا على السلطة الدينية أم موقفا أخلاقيا نابعا من وعي خطورة نفوذ طهران، هو، في النهاية، مؤشّرٌ على مرحلة ما بعد السيستاني.
الأحزاب الدينية، الموالية لإيران أو غيرُ المنسجمة معها، ذات سلطات مالية وسياسية ومجتمعية مسلحة داخل البلاد
المرجع ذو الـ 92 عاما رُوج له قبل ثلاثة عقود في ظروف مختلفة، وثبُت في مكانته قوةً لا منافس لها قبل عقدين من النزاع في إطار معطياتٍ سياسية معقدة. حينها لعبت مراكزُ مؤثرةٌ ماليا وسياسيا خارج العراق دورا غاب عنه العراقيون. لم تمتلك الأحزاب الدينية الشيعية وقتئذ سوى شتات معارضة محكومة بشروط العيش في إيران وسورية ولبنان وبريطانيا. الظروف الموضوعية اليوم مختلفة، ويحمل التنافس دلالاتٍ ومضامينَ سياسية أكثر من السابق. للعراقيين دور في النجف أكبر من الآخرين، والأحزاب الدينية، الموالية إيران أو غيرُ المنسجمة معها، ذات سلطات مالية وسياسية ومجتمعية مسلحة داخل البلاد.
ولأن اختيار المرجع بقي بلا آليات، ستتحدّد الآليات وفق شروط الصراع السياسي. الأتباع أنفسُهم لا يعرفون كثيرا عن الآخرين الموجودين في النجف، إلا من عالمي دين اثنين قريبين من السيستاني سنا. هناك أيضا الشرائح المتدّينة من الشباب الذين شاركوا في احتجاجات 2019، وهؤلاء ليسوا قليلي الأثر. لنجل السيستاني، محمد رضا، من النفوذ والمال والأتباع غيرُ قليل. هناك المليشيات الموالية إيران، والأخرى غير الموالية. توجد أيضا أحزابٌ تقليدية تبحث عن مكانة. مقتدى الصدر ينتظر. لم يقُلْ الزعيم ذو القاعدة الشعبية الواسعة كلَّ ما لديه، خصوصا أنه وأخاه، مرتضى، يسعيان إلى تعزيز دورٍهما بالتركيز على دراسة الشريعة. برز، أخيرا، رجلٌ دين عراقي إصلاحي ذو آراء جديدة شبهُ مضيَّقٍ عليه في إيران؛ كمال الحيدري، يمكن أن يروّج نفسه بديلا مقبولا في أوساط المتدينين المعتدلين.
ستشهد خلافة السيستاني مواجهة تمتد سنواتٍ حتى الحسم، وربما سيكون آخرَ مرجع موحد في النجف، لأن اللاعبين في اختيار خليفته فاقَ اختلافُ توجهاتهم الأزمنةَ السابقة. إنه صراع طائفة كانت خاضعة لزعاماتٍ دينية ذات تأثير بالغ قرونا، وتجد نفسَها خلال العقود الأربعة الأخيرة أمام زعاماتٍ دينية وأخرى سياسية تشتتُ ولاءاتِها. وليس متاحا القولُ ما هو الأفضل، التقاليدُ القديمة أم الصخب الراهن. المتاح قولُه إن للمتغيرات السائدة انعكاساتٍ طويلة الأمد داخل العراق وإقليميا.