خواطر شخصية حول أزمة الصحراء الغربية
أعترف بداية بفضل الأستاذ معن البياري الذي أغراني بالكتابة في هذا الموضوع، بعد قراءة مقاله المنشور في "العربي الجديد" يوم 29/8/2022 تحت عنوان "بوليساريو أم استعباط قيس سعيّد؟"، وقد ناقش فيه مجمل الدوافع والأسباب التي حدت بالرئيس التونسي قيس سعيّد لترتيب استقبال رئاسي لرئيس جبهة البوليساريو في المقصورة الرئاسية في مطار قرطاج، يوم الجمعة 26 أغسطس/ آب الحالي، والمبرّرات التي ساقتها الخارجية التونسية لتسويق هذا التصرّف غير المألوف. ورغم اتفاقي الكامل مع أغلب ما توصل إليه من استنتاجات هذا المقال المثير، خطر لي أن لقضية الصحراء الغربية جوانب وأبعادا أخرى تستحق أن تناقش، خصوصا في ضوء ما هو معروفٌ عن حساسية السلطات المغربية المفرطة في التعامل مع أي من جوانب هذه القضية.
من الوارد طبعا ربط ما قام به قيس سعيّد في هذا الشأن بسلوكه العام في الشأن السياسي، خصوصا في الآونة الأخيرة، للوصول إلى أن هناك مشكلة في شخصيته، وأنها شخصية تنتمي إلى نمط فريد يبدو عصيا على الفهم. وعلى أي حال، في تقديري أن هناك أسبابا أخرى موضوعية تدفعني إلى الاعتقاد بأن استقباله رئيس البوليساريو بهذه الطريقة لم يكن تصرّفا رشيدا، فالقضية الصحراوية لم تحقّق من هذا التصرف أي مكاسب حقيقية، لكنه أغضب دولةً جارةً تربطها بالشعب التونسي روابط قوية وعميقة، مثيرا بذلك أزمة إضافية حادّة في العلاقات المغربية التونسية لا أحد يعرف كيف ولا متى سيتم تجاوزها. وهو تصرُّفٌ تسبّب، في الوقت نفسه، في التشويش على مؤتمر دولي هام كانت تستضيفه تونس، ومن ثم أساء إلى تونس نفسها قبل أن يسيء للآخرين. لذا، من الطبيعي أن يثير تصرّف كهذا، وخصوصا أنه لم يحقّق أي نفع أو فائدة تُرجى لأيٍّ من الأطراف المعنية به، تساؤلاتٍ ليس فقط بشأن مدى عقلانيته، وإنما أيضا حول الحالة النفسية والمزاجية لصانع القرار التونسي نفسه. ولكن ماذا عن صانع القرار المغربي، هل يتسم سلوكه إزاء قضية الصحراء الغربية بأي قدرٍ من العقلانية؟
تلقيت في بداية عام 2014 دعوة شخصية من رئيس البوليساريو السابق محمد عبد العزيز لزيارة مخيمات اللاجئين الصحراويين في تندوف، ما أثار دهشتي. وبعد مناقشة مع الصحافية الصحراوية الشابة التي سلمتني هذه الدعوة في أثناء زيارتها القاهرة، تبين أن السبب في توجيهها يعود إلى أن رئيس البوليساريو شاهد بنفسه برنامجا حواريا عن قضية الصحراء الغربية على إحدى القنوات الفضائية العربية، شاركت فيه إلى جانب باحثين وإعلاميين عرب، وأنه يهتم اهتماما شديدا بأن لا تقتصر مصادر المعرفة عن القضية الصحراوية، خصوصا عند الباحثين والكتاب والإعلاميين، على الأطروحات النظرية وحدها، وإنما يجب أن تقترن بمعرفة ميدانية مباشرة. ولأنني أعتبر نفسي أولا وقبل كل شيء باحثا في العلوم السياسية، فقد وجدت في هذه الدعوة فرصة ثمينة للتعمّق في معرفة الأبعاد المختلفة للقضية الصحراوية، من خلال احتكاك مباشر مع أصحابها الأصليين، فرحبت بها وبدأت في اتخاذ إجراءات السفر. وبعدما حصلت على تأشيرة دخول للجزائر من سفارتها في القاهرة، وجدت أنه قد يكون من الملائم إخطار السفير المغربي في القاهرة بهذه الزيارة، رغم قناعتي التامة بعدم وجود ما يدعوني إلى ذلك، تجنبا لأي حساسيات، وللتأكيد على طابعها الشخصي والعلمي البحت، وعدم وجود أي دوافع أو أهداف سياسية وراءها، وهو ما تم فعلا. وبالفعل، قضيت حوالي أسبوع في تندوف في أكتوبر/ تشرين الأول 2014، إذا لم تخنّي الذاكرة. وأتيح لي خلاله زيارة بعض مخيمات اللاجئين، ولقاء عدد لا بأس به من المسؤولين، في مقدمتهم محمد عبد العزيز بالإضافة إلى صحافيين وكتّاب ومثقفين عديدين، من دون أن يدور في خلدي، ولو لحظة واحدة، أنها ستسبب لي متاعب لا حصر لها، وأن مفاجأة من العيار الثقيل تنتظرني.
لم يخطر ببالي قط أنه سيأتي يومٌ أمنع فيه رسمياً من دخول المغرب، البلد الجميل والعزيز على قلبي، لكن هذا هو ما حدث
في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه (2014)، وجهت لي مؤسسة الفكر العربي دعوة لحضور مؤتمرها السنوي في منتجع الصخيرات في المغرب، وخصوصا أنني كنتُ ممن طلبت منهم المؤسسة إعداد بحث في أحد الموضوعات التي يناقشها المؤتمر. ولأنه سبق لي أن زرتُ المغرب مراتٍ لا تحصى، وفي مناسبات عديدة، كان من بينها المشاركة في مهرجان أصيلة الثقافي السنوي بدعوة من رئيسه الوزير السابق محمد بن عيسى، أو لإلقاء محاضرات والمشاركة في ندوات تنظمها الجامعات المغربية، لم يخطر ببالي قط أنه سيأتي يومٌ أمنع فيه رسميا من دخول هذا البلد الجميل والعزيز على قلبي، لكن هذا هو ما حدث بالفعل، فقبل أيام من الموعد المحدد، تلقيت من مؤسسة الفكر العربي خطابا يفيد بأن السلطات المغربية اعترضت على مشاركتي في هذا المؤتمر ورفضت منحي تأشيرة دخول لها من دون إبداء الأسباب. وبالطبع، لم يكن المرء في حاجة إلى ذكاء كبير ليدرك أن زيارتي إلى تندوف هي التي تسبّبت في هذا الموقف غير المتوقع من السلطات المغربية. وما زلت، ورغم مرور هذه السنوات، ممنوعا من زيارة المغرب.
قد يرى بعضهم أن هذه قضية شخصية، لأنها تتعلق برفض دولة منح تأشيرة دخول لأحد طالبيها من دون إبداء الأسباب، وهو سلوك طبيعي تمارسه كل الدول. ولكنني أعتقد أنها أولا وقبل كل شيء قضية عامة، لأنها تتعلق، في الوقت نفسه، بالسلوك السياسي لصانع قرار كبير في عالمنا العربي، وبطريقته في التعامل مع واحدةٍ من أخطر القضايا السياسية التي تسبّبت في إسالة دماء عربية غزيرة، وفي استنزاف قدرات وإمكانات شعبين عربيين كبيرين، نكن لهما كل الاحترام، فضلا عن المعاناة الهائلة التي تكبّدها سكان الصحراء، والذين ينبغي أن تكون لهم الكلمة الفصل في تقرير مستقبلهم ومصيرهم، سواء بالانضمام بكامل حريتهم إلى المغرب، واعتبارهم له الوطن الأم، أو بالاستقلال الكامل.
ولأن تعامل الدولة المغربية مع هذه القضية السياسية العامة يتسم بتغليب الاعتبارات العاطفية، وبالانفعال الشديد والميل نحو شخصنة القضايا العامة، وهو ما تبين بوضوح من السلوك تجاهي بعد زيارتي البحثية إلى تندوف، وبالتالي، يعكس قدرا كبيرا من عدم الفهم وخلط الأوراق وغياب العقلانية والبعد عن الرشادة، من حقنا نحن المواطنين العرب أن ننبه إلى المخاطر والعواقب التي قد تترتب على هذا السلوك، وهي خواطر وعواقب تدفع الشعوب العربية كلها ثمنها غاليا.
إذا استمر تعامل الأطراف المعنية مع قضية الصحراء بالطريقة التي اعتادوا عليها، فقد تستمر نصف قرن أو قرن آخر تُهدر خلاله كل الطاقات
أفهم أن تحتج السلطات المغربية على تصريحات لا ترضيها، خصوصا إذا كانت صادرةً عن ممثلين رسميين لدول أو منظمات أو جماعات تعتبرها معاديةً أو غير صديقة، أو حتى أن تتخذ إجراءات معينة، تعبر عن رفضها لتلك التصريحات، في الحدود التي يقرّها القانون الدولي بالطبع. ولكن أن تقدم على حرمان مواطن عربي من حقّه في الحصول على تأشيرة دخول لمجرّد أنه زار بلدا عربيا آخر، أو تعامل مع طرف تعتبره خصما، رغم علمها يقينا أن الزيارة تمّت لأسباب علمية وبحثية ومعرفية بحتة، أو لأن باحثا عربيا عبّر في كتاباته أو في مداخلاته عبر وسائل الإعلام عن وجهة نظر تختلف عن وجهة نظرها الرسمية، فهذا ما لا يمكن فهمه أو تبريره على أي نحو، وهو سلوك لا يمكن أن يساهم بأي حال في خدمة القضية أو المواقف التي تتبنّاها أو تدافع عنها. ويلقي هذا النوع من التصرّفات غير العقلانية وغير المبرّرة بعض الضوء على واحد من أهم الأسباب التي تؤدي لتعقيد الخلافات العربية العربية، بدلا من حلها.
لست هنا بصدد مناقشة قضية الصحراء الغربية، أو المقارنة بين مواقف المغرب والجزائر وجبهة البوليساريو من هذه القضية الشائكة والمعقدة. ولكني أشعر بالأسى والحزن الشديد تجاه ما يجري في عالمنا العربي كله، ولا أستثني أحدا، فهناك خفّة حقيقية في تعامل صنّاع القرار في العالم العربي مع أخطر القضايا المصيرية التي تواجه شعوبهم ومجتمعاتهم. لقد مضى على قضية الصحراء الغربية ما يقرب من نصف قرن، وإذا استمر تعامل الأطراف المعنية معها بالطريقة نفسها التي اعتادوا عليها، فقد تستمر نصف قرن أو قرن آخر تُهدر خلاله كل الطاقات وتستنزف كل الإمكانات العربية بما يسبّب خسارة صافية لجميع الأطراف. وعليهم أن يدركوا أنه لا توجد قضية في العالم، مهما بلغت تعقيداتها، غير قابلة للحل. المهم أن يختاروا المنهج المناسب والخبرات المؤهلة للتصدّي لها.
وليس الغرض من هذا المقال أيضا مناشدة السلطات المغربية إعادة النظر في قرارها الخاص برفض منحي تأشيرة دخول للمغرب، وحرماني بالتالي من زيارة بلدٍ أحبه. فأنا الآن مسجون في مصر نفسها، ولا أستطيع مغادرتها لأي وجهة كانت، وبالتالي محروم من الحركة خارجها ومن زيارة كل بلاد العالم، فقد خرجت من أحد سجونها الصغيرة، عقب اعتقالي ستة أشهر عام 2019، وللأسباب نفسها تقريبا: عدم السماح بالاختلاف مع أطروحات الدولة الرسمية، حتى ولو كانت تعبيرا عن وجهة نظر شخصية لباحث أكاديمي. نحن فقط نلفت النظر إلى الخلل الذي تتسم به عملية صنع القرار في كل البلاد العربية، وليس في واحد منها بالذات!