خيارات واشنطن المرّة في أوكرانيا
تراجعت الحماسة الغربية، الأميركية - الأوروبية، لدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا، بعد فشل الجيش الأوكراني في الهجوم المعاكس الكبير الذي بدأه في يونيو/ حزيران 2022. راهنت الولايات المتحدة، ومعها بريطانيا، على هذا الهجوم، بل وأقنعت حلفاءها الأوروبيين بأن هذه العملية التي تبدأ بشبه جزيرة القرم كفيلة، ليس بتحقيق انتصار على روسيا فحسب، بل بإسقاط نظام الرئيس الروسي بوتين برمته، وأن تصبح روسيا موالية للغرب. يقول الرئيس زيلينسكي وقادة جيشه إن الدعم الغربي لم يكن كافياً، وقدّروا احتياجاتهم في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي للخروج من المأزق بملايين الذخائر، وما يزيد عن 350 مليار دولار (تقارب ما دُفِع لهم منذ بدء الحرب)، وهو ما يعجز الغرب عن توفيره، خصوصا بعد مساهمته في تكاليف الحرب الإسرائيلية على غزّة. تنشط جماعات الضغط في الكونغرس لإيقاف الدعم لأوكرانيا، فقد أحبطت دفعة مساعدات جديدة تقدّر بـ60 مليار دولار، وعطّل الفيتو البولندي في الاتحاد الأوروبي إمداد أوكرانيا بدفعة مماثلة (50 مليار يورو).
يقرّ قادة الجيش الأوكراني بالفشل، وأن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، وهو ما دفع الغرب إلى التفكير بالضغط على زيلينسكي للقبول بالتنازل عن خمس الأراضي الأوكرانية، أي المناطق الأربع التي ضمّها الروس في سبتمبر/ أيلول 2022 (لوهانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون)، والتي تغطّي شرق أوكرانيا وجنوبها، عدا عن شبه جزيرة القرم. وهنا عودة إلى الطرح الواقعي لوزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، منذ بداية الحرب، عن عدم شخصنة الحرب ضد بوتين، وحثّ أوكرانيا على قبول التفاوض وعدم ضمّها لحلف الناتو؛ في حينها ربما كان بوتين سيقبل بالتنازلات الأوكرانية والغربية وينهي الحرب، أما الآن فالظرف مختلف، لأن الغرب سيقدّم التنازلات بعد الهزيمة، وسيجد بوتين الفرصة للاستثمار في جيشه، المنهك، لكن المنتصر، لرفض التفاوض وتهديد حدود "الناتو" من البحر الأسود وحتى المحيط المتجمد الشمالي، وهذا سيرتّب على الحلف تكاليف باهظة للدفاع عن نفسه. وحسب بعض التحليلات، هي أكبر بكثير من الاستمرار في دعم أوكرانيا والحفاظ على الخطوط، بدلاً من تركها تخسَر، بل والاستثمار في الجيش الأوكراني الموالي لحلف الناتو، وجعله خطّ الدفاع الأول عن دول الحلف الشرقية.
سيخرُج بوتين بانتصارٍ يجعله أقوى بكثير مما كان عليه قبل غزوه أوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022؛ لأن الحرب أكسبت روسيا خبرة إضافية، ودفعتها إلى تصنيع كمّيات أكبر من الأسلحة والذخائر، بينما تعاني أوكرانيا من نفادها، وإلى تطوير شبكة دفاع جوي كثيفة مكوّنة من أنظمة إس - 300 وإس - 400 وإس - 500 طويلة المدى ومضادّة للطائرات والصواريخ، وتغطّي كامل الجبهات بشكلٍ متداخل، ولا يمكن اختراقها سوى بطائرات الشبح الأميركية الباهظة الكلفة، والتي توظّفها واشنطن لردع الصين عن هجماتٍ محتملة ضد تايوان وحلفائها الآسيويين. كما استطاع بوتين تجديد دماء جيشه، عبر الاعتماد على مقاتلين أجانب، وإعطائهم الجنسية الروسية لهم ولعائلاتهم، حيث يبلغ عدد الجنود على الجبهات حوالي مليون و300 ألف، مقابل 800 ألف مقاتل في الجيش الأوكراني، الذي يعجز عن تجنيد 500 ألف مقاتل جديد لتعويض النقص، خصوصا في ظل استهداف روسيا معسكرات تدريب الاحتياط.
سيخرُج بوتين بانتصارٍ يجعله أقوى بكثير مما كان عليه قبل غزوه أوكرانيا
وعلى الصعيد الاقتصادي، استطاعت موسكو تطوير طرق التحايل على العقوبات الغربية، والتي لم تكن ناجعة بسبب حاجة أوروبا إلى إمدادات الطاقة الروسية، ورفض السعودية الطلب الأميركي بتخفيض إنتاج النفط ضمن أوبك+. ويضاف إلى ذلك اعتماد الروس على تطوير قاعدتهم الصناعية، وتعويض خسائرهم المادية وتعافي الاقتصاد بسرعة. هذا يصبّ في رصيد تعزيز حكم بوتين، المقبل على انتخابات رئاسية في 17 مارس/ آذار المقبل، خصوصا إذا شملت المشاركة في الانتخابات المناطق الأوكرانية الأربع التي استولى عليها. وهناك دافع آخر يجعل بوتين يصرّ على استمرار المعركة طوال 2024، وهو المراهنة على عودة ترامب إلى البيت الأبيض، والأخير معروفٌ بموقفه غير المقتنع بحلف الناتو، وعلاقته القوية ببوتين.
بالنسبة للرئيس الأميركي بايدن، كانت القضايا الخارجية قد استنزفت وقته، ويفشل في إدارتها، وعليه الانكفاء نحو الداخل الأميركي خلال 2024 إذا أراد الفوز على منافسه القوي ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة. خيار التخلي عن دعم أوكرانيا يفرض على واشنطن مناقشة تبعاته، والالتزام باتفاقية حلف الناتو قد يفرض عليها نشر أعداد كبيرة من قواتها من البلطيق إلى البحر الأسود لمواجهة التقدّم الروسي، ولإبقاء صواريخ كروز وطائرات الشبح بأعداد كبيرة لاختراق منظومة الدفاع الجوية الروسية التي تغطّي تقدّم الجيش البرّي، وهذا يعني تقليص قدرة أميركا على مواجهة أي اعتداء صيني على تايوان.
مؤكّد أن حلف الناتو بقيادة أميركا قادر على هزيمة روسيا، لكن أساطيل واشنطن العسكرية في الباسيفيك قرب الصين، وكذلك تقديم الدعم غير المشروط للجيش الإسرائيلي في حربه على غزّة، أمران مستمرّان، ويشكلان أولوية بالنسبة إلى واشنطن، ولن تمسّ بهما من أجل حماية حدود "الناتو"؛ بينما تعجز قدرات "الناتو" عن ردع روسيا من دون مشاركة أميركية وازنة. هذا يدفع إلى التساؤل بشأن خيارات بايدن الصعبة والمرّة بشأن أوكرانيا، وهو مقبلٌ على عام انتخابي حاسم، هل سيستمر في دعم الجيش الأوكراني ضد الهجمات الروسية، أم سيتخلّى عنه ويدفع باتجاه تنازل أوكرانيا والتخلي عن حماية دول الحلف الشرقية، في ظل صعوبة نشر ترسانة عسكرية أميركية في تلك الدول؟ الخيار الأخير شديد الخطورة على كل المنظومة الدولية المستقرّة منذ الحرب العالمية الثانية، ويعني تبنّيه وجهة نظر ترامب تجاه "الناتو"، بأنه بلا جدوى.