خيري علقم ... كأنه استعارة
أحياناً كثيرة، يبدو التحليل السياسي لظاهرةٍ ما قاصراً عن فهم جذورها، فهو "يعقلنها"، ويبحث في أسباب تشكلها، وسياقها، وديناميات تطوّرها، لكنه لا يقدّم مقاربةً شافية، ولنقل مبدعة، ترقى إلى مستوى الظاهرة نفسها. وفي الحالة الفلسطينية، تعثر على مئات التحليلات والدراسات السياسية الرصينة، وبعضُها لمّاح وثاقب الرؤية، لكنها لا تستطيع أن تبسط لك، وبما يقنعك ويُدهشك، ظاهرة ابتسامات الفتية الفلسطينيين لدى اعتقالهم (هل شاهدتُم ضحكة محمد عليوات منفذ عملية سلوان وهم يقتادونه مقيّد اليدين؟) أو ذلك الطيران الباهر لرماة الحجارة كأنهم ينفصلون عن الأرضيّ وشروطه، والسياسيّ وإكراهاته، في الوقت نفسه، لرمي حجر على جندي إسرائيلي متأهّب في الجوار ببندقيته الآلية ونظاراته الشمسية، ولامبالاته بضحيّته على الضفة الأخرى من النزال.
صحيحٌ أن اندفاعة الجسد القصوى تجعله يخفّ فيزيائياً فيرتفع عن الأرض، لكن هذا تفسيرٌ لظاهر الحدث، والسؤال هو عن القوة الجبّارة التي جعلت الفتى يطير وهو يقذف الجندي الإسرائيلي بحجارته، ولا تفسير مقنعاً لذلك إلا إذا كان شعرياً، أو بحثاً في "الشخصية الفلسطينية". وأظن أن خيري علقم، منفّذ عملية القدس أخيرا، ومن قبله عدي التميمي، منفذ عملية مستوطنة معاليه أدوميم شرقي القدس في الـ19 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نموذجان لتعقيد الحالة الفلسطينية واستعصائها، لا لأن الفلسطيني ليس كبقية الناس، بل لأن حالته نفسها استثنائية في كل المقاييس، فإذا افترضنا أن علقم الذي سُمي على اسم جدّه الذي قتله مستوطنٌ يهوديٌّ قبل ولادة الحفيد بثلاث سنوات، نفّذ عمليته ثأراً لجدّه، وهذا وارد، فما الذي يربط الحدث باقتحام جنين قبل يوم من تنفيذ العملية، فهل هي انتقامٌ أيضاً؟ وإذا كانت كذلك فكيف تأتّى لمجرّد شابٍّ صغيرٍ في السن (21 عاماً) أن ينتقم لماضيه الشخصي ولحاضر شعبه في الوقت نفسه؟! هذا التوازي بين ما هو شخصي ووطني لدى الفلسطينيين ليس مفاجئاً، بل هو في صلب حياتهم ورغماً عنهم، ولكن أن تجمع بين الدافعين في فعلٍ واحدٍ يغدو باهراً، ويكاد يكون عبقرياً في توقيتِه ودلالاته، وتقصُر عن تشريحِه أي تحليلاتٍ عن توحّش اليمين الإسرائيلي في مقابل اليأس الذي يتحوّل إلى قنبلةٍ قد تنفجر في أي لحظة، فهذا نوعٌ من التحليل النمطي، وهو صحيحٌ لكنه غير كافٍ، ما لم يُرفَد بمقاربةٍ دلالية، شعريةٍ إذا شئت، لهذه الحالة دون سواها، ومن ثم ربطها بحالاتٍ شبيهةٍ يكاد تراكمها يتحوّل نمطاً يجعل الفهم ميسوراً أكثر في سياق أعرض.
أنظر ماذا حدث؟ يتجوّل الشاب بسيارةٍ يقودها بالقرب من مستوطنة النبي يعقوب، ثم يترجّل وهو يحمل مسدساً. يطلق النار مراراً على من يصادفهم هناك. يغيّر مشط المسدّس أكثر من مرّة، وتكون النتيجة إصاباتٍ مؤكّدة قتلت سبعة مستوطنين وأصابت أكثر من عشرة بجروح، ما يعني أنه محترف أو مدرّب جيداً (متى فعل ذلك؟)، ثم يصادف امرأة تتوسّل إليه ألا يقتلها، فيُخبرها بأنه لا يقتل النساء، وذلك لا يعني تفوّقاً أخلاقياً وحسب، بل أيضاً قدرة فذّة على ضبط النفس والاحترافية العالية التي لا تنشغل بأهدافٍ فرعيةٍ قد تعيق تحقيق الهدف الرئيسي. يفعل ذلك كله، وهو في الحادية والعشرين وحسب، ولا أظنّه قرأ فرانز فانون أو غرامشي. في هذا التقاطع بين أن تعكس في شخصك منظومة أخلاقيةً متماسكةً، رفيعة المستوى، تميّز بين الهدف المشروع وذاك الذي يتعارض مع قيمك الجمعية من جهة، وأن تنتقم لجدّك الذي قُتل قبل ولادتك، ولشهداء شعبك الذين قتلوا قبل يوم من عمليتك، ثمّة عبقريةٌ مدهشةٌ تكاد لا تُصدّق، خصوصا أن العملية برمّتها فردية، ولا تنظيم أو جهة خلفها خطّطت ونسّقت ودعمت، وحرصت على الانسجام الأخلاقي والمشروعية النضالية في وقت واحد.
لا بد من محمود درويش أو من هو في مستواه ولا يوجد بعد، لترتقي الكتابة إلى مستوى حدثٍ كهذا، فنفهمه ونفهم تلك الاندفاعة الغريزية التي قام بها شابٌّ آخر، عدي التميمي، منفّذ عملية حاجز مخيم شعفاط، الشاب الوسيم كأنه أحد نجوم السينما، برأسه الحليقة، الذي طاردته قوات الاحتلال 11 يوماً، وحلق رفاقُه شعور رؤوسهم مثله لتضليل هذه القوات، فإذا به يعود إلى مستوطنة معاليه أدوميم مهاجماً حرّاسها. يطلق الرصاص فيردّون عليه فلا يتراجع، بل يواصل إطلاق الرصاص حتى يستشهد: كان يحدّق في الموت ويراقصه، وتلك استعارةٌ تجعل ذلك الشاب نفسه جملة قصيرة، لكنها مكثفة جداً، ومحتشدةٌ بالدلالات في قصيدةٍ لا يكتبها إلا الفلسطينيون بدمائهم منذ قرن ويزيد.