خَطَلُ الحلول الشعبوية لأزمة سدّ النهضة
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"
في مثل هذا الوقت من العام الماضي (2020)، واجه السودان أكبر فيضانٍ في نهر النيل الأزرق منذ قرابة قرن، صحبته أمطارٌ غزيرة في مناطق عدة من البلاد، ما تولدت عنه كوارث كبرى تأثر بها عشرات الآلاف. تزامن هذا مع قرار إثيوبيا بدء الملء الأول لسد النهضة، وسط معارضةٍ شديدةٍ من كلّ من مصر والسودان. وقد طرح هذا سؤالاً مهماً: لماذا لم يساعد ملء الخزّان في لجم الطوفان؟ توجهتُ بهذا السؤال إلى أصدقاء إثيوبيين مقرّبين من رئيس الحكومة أبي أحمد: لماذا لا تنتهزون هذه الفرصة فتزيدوا كمية المياه المخزّنة، وبالتالي تنقذوا السودانيين من كارثة الفيضان؟ كانت الإجابة أنّ سعة السد التخزينية كانت لا تزال محدودة جداً.
الآن، بعد مرور عام آخر، وعلى الرغم من أنّ إثيوبيا خزّنت ضعفي ما خزّنته العام الماضي، حذّرت السلطات السودانية مرة أخرى من خطر فيضان يُحدق بكثير من مناطق السودان المحاذية للنيل الأزرق، وامتداده في النيل شمالي الخرطوم. وهذه المرّة أيضاً، لا يبدو أنّ إثيوبيا راغبة بالمساعدة أو قادرة عليها. وهذه مفارقة عجيبة، تشير إلى مسافةٍ كبيرة بين الواقع، وهو أنّ السد الإثيوبي غير قادر على حجب كمياتٍ كافيةٍ من المياه لحماية دولتي المصبّ، خصوصاً السودان، من كوارث مائية، بينما الصراع الظاهر كان حول تغوّل إثيوبيا على نصيبي مصر والسودان من الماء. وكان الخطاب المصري قد بلغ حدّ الهستيريا، حتى قبل أن يقترب السد من التشغيل. وما زلت أذكر تصريحات الرئيس محمد مرسي قبل أقل من شهر من إطاحته عن أهمية محافظة مصر على مياه النيل، المهدّدة في نظره، مضيفاً: "وإذا نقصت قطرة واحدة من ماء النيل فإنّ دماءنا هي البديل". كان الرئيس يدلي بهذه التصريحات في مؤتمر شعبي حول مياه النيل، وبالتالي كان من المفهوم أن يطلق شعاراتٍ شعبوية، لكنّها أبعد ما تكون عن الحكمة. وما زلنا نسمع من كبار المسؤولين المصريين اليوم تكراراً للتهديدات بالحلّ العسكري!
الموقف المصري من قضية مياه النيل ظلّ يتميز بما يشبه الهوس
الموقف المصري من قضية مياه النيل ظلّ يتميز بما يشبه الهوس. ففي مطلع القرن العشرين، كانت مصر تتخوّف من استخدام السودان مياه النيل، إذ عارضت بناء الخزّانات مثل خزان سنار، والمشاريع الزراعية مثل مشروع الجزيرة، على الرغم من أنّ الدعاية المصرية كانت تكرّر أنّ السودان ومصر بلد واحد! وقد نصّت اتفاقية مياه النيل لعام 1929، التي أبرمتها بريطانيا مع مصر نيابة عن السودان وبقية دول حوض النيل (باعتبارها السلطة المهيمنة على تلك الدول)، على ألّا تقام أيّ مشاريع ريّ أو توليد كهرباء في السودان أو أيّ منطقة أخرى على مجرى النيل من دون موافقةٍ مسبقةٍ من مصر. وقد وافقت مصر في تلك الاتفاقية على زيادة نصيب السودان من المياه "دون الإضرار بحقوق مصر الطبيعية والتاريخية". وفي اتفاقية عام 1959 بين مصر والسودان، والتي شملت موافقة السودان على بناء السدّ العالي، والتضحية بمدينة حلفا ومساكن أهلها وقرى عديدة حولها، زاد نصيب السودان من أربعة مليارات متر مكعب سنوياً إلى 18 ملياراً. وقد شمل الاتفاق تهجير سكان المنطقة، وفقدانهم والبلاد مساحاتٍ واسعة من الأراضي الزراعية غمرتها بحيرة السدّ.
الهوس الشعبوي الذي أصاب القاهرة ونقل العدوى إلى الخرطوم، نتج عنه انجرافٌ باتجاه الصراع الذي لن يفيد أحداً
لكنّ الأوضاع تغيّرت منذ تلك الاتفاقيات، إذ زاد عدد سكان السودان من 14 مليوناً إلى قرابة 60 مليوناً (بما في ذلك جنوب السودان)، وبلغ سكان إثيوبيا أكثر من مائة وعشرة ملايين، وبدأت دول حوض النيل الأخرى (أوغندا، كينيا، رواندا، بوروندي، الكونغو)، تطالب بحقوقها المائية (لم تكن تلك الدول محسوبةً في المعادلات السابقة، بل إنّ اتفاقية 1902 مع إثيوبيا حرّمت عليها أيّ استغلال لمياه النيل الأزرق).
والمنطق يقول إنّ هذا الوضع غير قابل للاستمرار، إذ لن تقبل دول حوض النيل الأخرى باحتكار مصر والسودان مياه النيل. وبالتالي، فإنّ نصيب مصر لا بد أن ينقص أكثر من نقطة. وما جاء في دعوى محمد مرسي، رحمه الله، من تهديد بإراقة الدماء لا معنى له، فمصر ليست لديها حدود مشتركة مع دول حوض النيل الأخرى، بما فيها إثيوبيا، حتى تشنّ الحرب عليها. وهذا يعني استخدام الأراضي السودانية في هذه الصراعات، وبالتالي توريط السودان وتهديد استقراره إلى أجل غير محدود. وحتى لو شنّت الحرب، فإنّ هذا لن يضمن تدفق المياه إلى مصر، فلو ارتكبت الأخيرة حماقة قصف سد النهضة، فإن الضرر سيقع على السودان حصراً، عبر فيضانات كارثية. كذلك لن يوجد عندها ما يمنع إثيوبيا من قصف السد العالي وسدود السودان. وفي الحالتين، المتضرّر هما دولتا المصبّ، خصوصاً السودان الذي سيواجه كوارث مدمّرة.
يتطلب هذا كلّه من السودان النأي بالنفس عن الصراع القائم، وهو في حقيقته صراعٌ بين إثيوبيا ومصر بشأن حصص المياه، فليس في مصلحة السودان أن يصبح ساحة صراع بين دولتين مجاورتين، وفيه ما يكفي من الصراعات الداخلية. ومهما يكن، فإنّ نصيب السودان من المياه لن يتأثر ببناء السدّ أو غيره، إذ إنّ نصيبه سيأتيه حتماً. وعليه، الحكمة (والمصلحة الأكبر لكلّ من مصر والسودان) في أن يبقى السودان محايداً حتى يلعب دور الوسيط العاقل والنزيه بين الطرفين، وألّا ينجرف مع أيٍّ منهما، خصوصاً في مغامراتٍ طائشة.
إثيوبيا محقة في رفض توقيع اتفاق يحرمها من أيّ حق في استغلال مياه النيل الأزرق بدعوى "الحقوق التاريخية" لبلدي المصبّ
تاريخياً، نجد أنّ موقف السودان شهد، وما زال، تذبذباً غير مبرّر، فقد كان في عهد عمر البشير أقرب إلى الانحياز لإثيوبيا، لعدة أسباب. من ذلك النزاع مع مصر حول مثلث حلايب، وكذلك زيادة النفوذ الإثيوبي في المنطقة في ظلّ تراجع دور مصر التي تخلّت تماماً عن السودان، فلم نسمع لمصر مشاركة في جهود السلام في السودان، ولا في دعم الاستقرار فيه. وأخيراً، شهدنا انجرافاً كاملاً وغير مبرّر تجاه الموقف المصري المتطرّف حول قضية المياه، فقد أصبح السودان عملياً بوقاً للنظام المصري في المواجهة مع إثيوبيا.
لكن، يبدو أنّ الهوس الشعبوي الذي أصاب القاهرة ونقل العدوى إلى الخرطوم، نتج عنه انجرافٌ باتجاه الصراع الذي لن يفيد أحداً. لأنّ العنتريات التي نسمعها من العاصمتين في غياب أي تفكيرٍ علميٍّ في معالجة الوضع، أو مقترحاتٍ دبلوماسيةٍ سياسية في اتجاه إيجاد الحلول، سيؤدّي إلى الدمار. مصر والسودان يزعمان أنّهما يريدان اتفاقاً ملزماً مع إثيوبيا يضمن "حقوقهما التاريخية" لكنّهما يرفضان الحديث عن إعادة توزيع الأنصبة. وإثيوبيا محقة في رفض توقيع اتفاق يحرمها من أيّ حق في استغلال مياه النيل الأزرق بدعوى "الحقوق التاريخية" لبلدي المصبّ، ويلزمها بالتالي بوضع مصلحة البلدين فوق مصلحتها، فإذا كانت الحرب خياراً لاعقلانياً وغير واقعي، ضررُه أكبر من نفعه، فإنّ الخطاب الشعبوي الذي يهدّد ويتوعد هو ضياع وقت، وهو كذلك خطرٌ على البلدين، لأنّه قد يفرض على الدول المعنية ارتكاب الحماقات التي تهدد بها، فتصبح في وضع أسوأ.
وعليه، من الأفضل البحث في الحلول العقلانية، وإيجاد صيغة تعاونية تمكّن من المحافظة على مياه النيل، وتعظيم الكميات المتاحة منها، وعقلنة استخدامها، وتوخّي العدالة في التوزيع، وكذلك البحث في المصادر البديلة. فما تصرفه دول المنطقة في أدوات الحرب يكفي لزيادة الموارد المالية من مصادر متعدّدة، وكفى الله المؤمنين القتال.
أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"