دعم أميركي لإسرائيل منزعج
انتهى العدوان الإسرائيلي على غزّة، بهدنةٍ لوقف إطلاق النار، أرادها الرئيس الأميركي، جو بايدن، أن تكون بمساع عربية، ليُبقي إدارته بعيدة أكبر مسافة ممكنة من الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ فالاهتمام الأميركي في منطقة الشرق الأوسط بات مقتصراً على إحياء المفاوضات النووية مع إيران، الأمر الذي تعارضه إسرائيل بشدة.
من العبث القول إن المعركة بين حركة حماس وإسرائيل كانت لتحقيق نصر سياسي لأي طرف، بل لتسجيل النقاط، وصولاً إلى الهدنة. وعلى الرغم من إدانة بيان البيت الأبيض صواريخ "حماس"، ودعمه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هذه الصواريخ، ومن دون إدانةٍ للهجمات الإسرائيلية على المراكز المدنية والعسكرية في غزّة، إلا أن اتفاق وقف إطلاق النار لم يتضمن حلاً لمشكلة الأسرى الإسرائيليين، وفق اعتراضات اليمين الإسرائيلي، الذي اعتبره تنازلاً لحركة حماس، وزاد النقمة في الداخل الإسرائيلي على نتنياهو، ما اضطرّه إلى مخالفة الاتفاق، والعودة إلى ممارسة الانتهاكات في القدس والمسجد الأقصى بعد سريان الهدنة.
المخاوف الإسرائيلية، وكذلك العربية، من عودة إدارة بايدن إلى الاتفاق النووي مع طهران، تتعلق بالموارد المالية التي ستتدفق إلى الأخيرة، مع رفع العقوبات والعودة إلى أسواق النفط العالمية
أراد نتنياهو الهروب من مأزقه؛ فافتعل التصعيد بتهجير العائلات من حي الشيخ جراح في القدس، واقتحام حرم المسجد الأقصى، ومارس عنفاً كبيرا في الاشتباكات مع الفلسطينيين، وذلك في اليوم الذي فشل فيه في نقل السلطة، وكان عاجزاً عن تشكيل حكومة؛ ونجح في جرّ حركة حماس إلى المعركة بصواريخها غير الدقيقة تماما، لكسب تأييد اليمين الإسرائيلي مجدّداً، والبقاء في السلطة، والتهرّب من المحاكمات.
ليست مشكلة نتنياهو الشخصية وحدَها وراء التصعيد، فهناك أسباب أعمق لإسرائيل تتعلق بمعارضتها الشديدة عودة الولايات المتحدة إلى إحياء الاتفاق النووي مع إيران؛ فقد تزامن اتفاق وقف إطلاق النار مع أنباء عن العودة إلى الاتفاق بصيغة 2015، وفق البيان الثلاثي لفرنسا وبريطانيا وألمانيا، ووفق تصريحات إيرانية، ووفق ما كان الرئيس بايدن قد قاله للوفد الإسرائيلي الرفيع الذي زار واشنطن نهاية الشهر الماضي (إبريل/ نيسان). وبالتالي، كان التصعيد لجرِّ إدارة بايدن إلى تقديم الدعم لإسرائيل ضد حلف إيران، والتشويش على مسار العودة إلى الاتفاق النووي؛ تورّطت "حماس" في المعركة، بدعم إيراني، لكن باعتبارها شأناً فلسطينياً داخلياً، فيما نأى حزب الله بنفسه عنها، على الرغم من استفزازات إسرائيلية له على الحدود.
المخاوف الإسرائيلية، وكذلك العربية، من عودة إدارة بايدن إلى الاتفاق النووي مع طهران، تتعلق بالموارد المالية التي ستتدفق إلى الأخيرة، مع رفع العقوبات والعودة إلى أسواق النفط العالمية، واستعادة الأصول المالية المحتجزة لدى الدول التي خشيت من العقوبات الأميركية التي فرضها الرئيس السابق، ترامب، لدى إلغائه العمل في الاتفاقية النووية في 2018؛ حيث ستوظف طهران هذه الوفرة المالية في برنامج صواريخها البالستية، وفي تمويل مليشيات في العراق ولبنان وسورية واليمن وغزّة.
يبدو بايدن متردّداً في دعمه حكومة نتنياهو؛ فقد تأخر اتصاله الأول بنتنياهو بعد استلامه السلطة، ولم يعين مبعوثاً لشؤون الشرق الأوسط
ما زالت تفاصيل العودة إلى إحياء الاتفاق النووي مبهَمة، وتحتاج إلى انتظار الجولة الخامسة من مفاوضات فيينا، خلال الأسبوعين المقبلين، بوساطة الشركاء الأوروبيين؛ لكن الواضح أن مقاربة بايدن للعلاقة مع إيران تعتمد سياسة المهادنة، وهذه السياسة ستستمر طوال فترة رئاسته، أي ليس أقل من أربع سنوات، ومن هنا يأتي مصدر القلق الإسرائيلي والعربي من العودة إلى الاتفاق.
يبدو بايدن متردّداً في دعمه حكومة نتنياهو؛ فقد تأخر اتصاله الأول بنتنياهو بعد استلامه السلطة، ولم يعين مبعوثاً لشؤون الشرق الأوسط، وتأخر اتصاله بنتنياهو بعد التصعيد أخيرا، واتصل بالمسؤولين الفلسطينيين، وفضّل أن تقوم دول عربية بدور الوساطة بين "حماس" وحكومة نتنياهو، وقد يفتح القنصلية الأميركية في القدس، لاستمرار التواصل مع الفلسطينيين، والتي أغلقها ترامب؛ وقد قال إنه مستاء من تصلب نتنياهو. ويعود تردّد الرجل إلى إرث ترامب الثقيل، والذي شكَّل أضراراً تحتاج إصلاحاتٍ أولية من وجهة نظر إدارته؛ فترامب كان حالة عنصرية فريدة في السياسة الأميركية، وعدوانية على قيم المساواة والإنسانية، والتي كان تحقيقها من ضمن شعارات بايدن الانتخابية. يريد التعبير عن انزعاجه من حكومة نتنياهو، ومن تحالف اليمين الأميركي معها، والتخفيف من حدّة الاستقطاب السياسي التي أحدثها ترامب داخل الولايات المتحدة.
تبنَّى ترامب موقف نتنياهو كلِّيا، ونقل السفارة إلى القدس، وبارك الاستيطان، واعترف بالقدس عاصمة إسرائيلية، في إجراءات أحادية الجانب، أزعجت ديمقراطيي الكونغرس، وشكلت ردَّات فعل غاضبة ضد أي دعم أميركي لحكومة نتنياهو. أربك هذا الأمر بايدن أيضاً، في تحديد موقفه من حكومة نتنياهو، من دون أن يغيِّر من الموقف الأميركي الاستراتيجي الداعم للكيان الإسرائيلي الاستيطاني عموماً.
في أثناء التصعيد الإسرائيلي أخيرا، وافقت إدارة بايدن على بيع صفقة أسلحة دقيقة لإسرائيل بقيمة 735 مليون دولار
لا يريد بايدن المجازفة في إحياء عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، على عكس الرئيس الأسبق، أوباما، الذي كانت من أولوياته، إذ عيّن مبعوثاً له في اليوم الثاني لتوليه السلطة؛ خبر بايدن بنفسه، حين كان نائباً لأوباما، كيف أعلن نتنياهو عن بناء مستوطنات جديدة بالتزامن مع بدء زيارته إسرائيل.
لا تغييرات تطاول الموقف الغربي الداعم لإسرائيل، وفي مقدمه الأميركي؛ ففي أثناء التصعيد الإسرائيلي أخيرا، وافقت إدارة بايدن على بيع صفقة أسلحة دقيقة لإسرائيل بقيمة 735 مليون دولار، الأمر الذي أغضب الديمقراطيين، وهي مستمرّة بتقديم الدعم الدبلوماسي والمساعدات الأمنية لها (3.8 مليارات دولار سنوياً). ما تغيّر هو تشكُّل موقف فلسطيني شعبي موحد، لدى فلسطينيي الـ48 وقطاع غزّة والضفة الغربية على السواء، ويمكن القول إن ما تحقق من هذا التحرّك هو إلغاء إنكار ترامب الوجود العربي في القدس الشرقية ومنحها لإسرائيل التي اعتقدت أنها ملكت سيادة مطلقة عليها. ولكن تورط حماس العسكري في الحرب كان سلبياً على فاعلية الانتفاضة الشعبية في القدس وباقي المدن الفلسطينية، حيث سرق الأضواء إعلامياً، وحوّل المسألة إلى نزاع بين طرفين انتهى بهدنةٍ غير معلنة، كانت لإنهاء الانتفاضة الفلسطينية، وليس لإيقاف الحرب. هذا ما أراده الأميركيون والإسرائيليون، خشية تطوُّرها، خصوصا مع حالة التضامن العالمي التي رافقتها، وأربكت بروباغاندا المظلومية اليهودية التاريخية التي يفرضها اللوبي الصهيوني على الإعلام العالمي.