دكاكين رمضان
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
حين كنّا أطفالا، في قرية سرور في عُمان، كنّا ننتظر، في شهر رمضان، بشغف، أن تمرّ سيارة بيع الثلج التي تأتي عادة بعيد العصر، تبيعه كتلة واحدة عادة، مغلّفةً بورقة نايلون شفّاف. تكسرها بعد ذلك أمهاتنا وتوزّعها على الأوعية الفخّارية لتبريد ماء الشرب المجلوب فوق الرؤوس من أم الفلج. وإذا وجدت زجاجة شراب "فيمتو" فإن ماء الآونة الفخارية يصير حلوا وأحمر وباردا أيضا. وقبل أن تظهر سيارة الثلج هذه، التي يصير وجودها مصيريا وسحريا لتحويل الماء الساخن إلى بارد في أيام الحرّ الشديد، كان أهلنا يرسلوننا إلى الدكّان الوحيد في الحارة، دكان العمراني، لنشتري ما نقص في المطبخ. وعادة ما يكون حفنة من الطحين أو السكر، وكذلك بطاريات حجرية احتياطا قبل أن يخيّم الظلام، حيث لم تدخل الكهرباء إلى قريتنا بعد.
علينا أن نعود سريعا قبل أن تأتي سيارة بيع الثلج التي تدور بين القرى من بدبد إلى لزغ مرورا بقريتنا سرور. حين جاءت الكهرباء بعد ذلك، استغنينا عن سيارة الثلج، وخلعت القرية رويدا رويدا رداءها القديم، وزاد عدد الدكاكين في قريتنا. أول ما فعله عمّي يعقوب، رحمه الله، أن حقق حلمه القديم بشراء فيديو لمشاهدة فيلم "عنتر وعبلة" وقتما يشاء. وهو الفيلم الذي منّى نفسه بمشاهدته، وكان قد تفرّج عليه أول مرة في سينما قرية فنجا المتاخمة، وهو من بطولة سراج منير وكوكا وإخراج نيازي مصطفى، كتب الحوار الشاعر العبقري بيرم التونسي، لذلك تحفظ عبارات كثيرة منه من المشاهدة الثانية، من قبيل عبارة "تمنّى يا عنتر" التي كافأ بها شدّاد البطل عنترة اعترافا بإنجازه البطولي. لم يفارق ذلك الشريط جهاز الفيديو إطلاقا. بل ربما لم يعرف عمّي يعقوب شريطا آخر بعده، حتى إننا حفظناه صورةً صورة. ما إن ندخل إلى غرفته إلا ويشغّل لنا شريط "عنتر وعبلة"، فنراه بالحماس الذي رأيناه فيه أول مرّة، مع فرق مهم: أننا كنا نتحدث عن اللقطة الموالية قبل حدوثها، وهناك من يفاجئه أنها حدثت بالكمال والتمام.
حاليا، تنتعش في جميع المناطق العربية والإسلامية الدكاكين في شهر رمضان، وخصوصا في الأوقات القليلة ما قبل الإفطار. قد تتساءل أين كان هؤلاء البشر طوال اليوم، لماذا تختنق المحلات في هذه الدقائق أكثر من غيرها؟ وتتذكّر دكان العمراني في طفولتك، الذي لم يكن يزوره سوى الأطفال. وكان ينتعش بالفرح حين يدخلونه مجموعاتٍ يسبقهم الهرج والمرج، حيث كان يضع أمامه في الطاولة مباشرة العلب الأكثر تداولا وهي المليئة بالحلوى والسكاكر.
تنتشر كذلك في مسقط، على سبيل المثال، قبل الإفطار بساعة تقريبا، محلات بيع المعجّنات. وهي عادة صناعات محلية، حيث تتحوّل بعض الشوارع إلى مطابخ مفتوحة لقلي (وبيع) معجّنات السمبوساه والبكوراه والمندازي واللولاه ولقيمات القاضي ... إلخ. في المغرب مثلا في هذا الوقت، وخصوصا في مدينة فاس، كان يطبخ في الشارع مباشرة المسمن والبغرير والملاوي والحرشه.
تغلق الدكاكين أبوابها في أثناء الإفطار، تفتح بعده، وهذه المرّة ستظل حتى ساعات متأخّرة من الليل. من دون أن نغفل محلات الشاورما التي أصبحت علامة مميزة في مسقط، بطابعها التركي. حين تقرأ لافتاتها، تشعر، لحظةً، وكأنك في أحد شوارع إسطنبول، حيث لا بد أن يكون ثمّة كلمة تشير إلى الفضاء التركي البعيد. حتى وإن كان الذي يبيع في المطعم عربيا أو هنديا. في الحي الذي أسكن في مسقط، سبعة محلات شاورما كلها تحمل لافتات مكتوبة بالعربية والإنكليزية، ولكن لا بد من وجود اسم تركيا أو إسطنبول على لافتاتها. منها المطعم التركي الذي يعمل فيه شاب جزائري، ومعه شاهدت المباراتين الوديتين الأخيرتين اللتين لعبهما المنتخب المغربي، في إحداهما تفوّق على المنتخب البرازيلي (اثنان مقابل واحد) وكان وهو ينتقل بخفّة بين الزبائن يشجّع بحماس المنتخب المغربي الذي يكنّ له الجميع إعجابا صادقا، بعد الأداء البطولي الذي قدّموه في كأس العالم في قطر.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية