دوستويفسكي وتجليات الخلود
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
اعتمدت منظمة يونسكو، أخيراً، العام الحالي 2021 عاماً لدوستويفسكي. وبالنظر إلى قيمة المُحتفى به، سيكون الاحتفال كبيراً، يشارك فيه كل العالم. وليس الأمر جديداً أو مبتكراً، فمنذ مائة عام (وُلد في 1821 وتوفي في 1881) حدث أمر شبيه، كما كتبت ابنته، لوبوف دوستويفسكي، في مذكراتها، فعلى الرغم من الحرب يومئذٍ، وتقطّع السبل، فإن المشاركات العالمية بمرور مائة عام على ولادة أسطورة الأدب العالمي كانت ملفتة.
يجعلنا الحديث عن دوستويفسكي نعرّج على تأثير الأدب والفن الروسيَين في العالم. وفي الحقيقة، كلّ أديب وفنان ورسام روسي، وليس دوستويفسكي فقط، يستحق أن يُحتفى به عالمياً، لأنهم أساتذة مؤثرون، ليس في الأدب والفن فقط، بل تسلّل تأثيرهم إلى العلوم والسياسة، فهذا عالِم الرياضيات، أينشتاين، يعترف بأنه يدين لصاحب "الإخوة كارامازوف" بالكثير (خصوصاً الجزء الثاني من الرواية). وفرويد، الذي سبقه دوستويفسكي في الغوص في عوالم النفس البشرية، انطلق إلى تحليل الأدب، نفسياً، بناء على كشوفات صاحب "الجريمة والعقاب"... وعندما تقرأ رواية "المزدوج"، تكتشف، كما صاحب هذه السطور، القدرة العجيبة لدى دوستويفسكي في النفاذ إلى أعماق شخوصه، واستكناه بواطنها ووساوسها وهواجسها.
كما كان تأثير تولستوي واضحاً على السياسي الهندي غاندي. وكلاهما ينتميان لعائلة ثرية، فحين خصص تولستوي مزرعة كبيرة، بنى فيها مدارس ومستشفى للفقراء، فعل غاندي الشيء نفسه، وسمى مزرعته في الهند مزرعة تولستوي وتفرّغ للزهد، تماماً كما فعل تولستوي. وكنت قد رأيت في موسكو تمثالاً لغاندي. وحين مات تولستوي، رثاه أحمد شوقي بقصيدةٍ، قال في مطلعها: تولستوي تجري آية العلم دمعها/ عليك ويبكي بائس وفقير.
وشعب ضعيف الركن زال نصيره/ وما كل يوم للضعيف نصير.
لقد أثّر الأدب الروسي على الأدب العالمي، خصوصاً الرواية، كما فعل الأدب الفرنسي من قبل. وهناك معطيات واقعية ساهمت في حدوث هذه الطفرة. فكما يقول إميل زولا، في اعترافاته، إن "معظم الكتاب الفرنسيين في زمنه يكتبون بروح الموظفين"، أي أن كتاباتهم كانت متشابهة، ولا تحمل قوة إبداعية، وهذا صحيحٌ، لأننا، وبدءاً من نهاية القرن التاسع عشر، لم نسمع عن كتاب فرنسيين بحجم ديدرو وبلزاك وستاندال وفولتير. في المقابل، كانت الضفة الروسية تتلاطم بالأسماء الكبيرة. والسبب أن الثقافة الروسية، وهي تتمتع بمخزون شعبي هائل، وبمجرّد أن اشتعل فيها قبسٌ من الثقافة الأوروبية الغربية، بفضل الانفتاح الذي بدأه بطرس الأكبر (القيصر) الذي فتح نافذة على أوروبا (لأن روسيا قبله كانت شبه منغلقة، ومنكفئة على نفسها، لأسباب سياسية وعسكرية) بمجرّد ما عبر الضوء من تلك النافذة إلى روسيا، اشتعلت بالإبداع في كل المجالات، وتعزّزت القيمة الإبداعية للأدب، وهي التي ضعفت في الغرب، وظهر في العالم قبسٌ أدبي جديد وفتيّ، فاستسلم أمام الضياء الفياض، واضطرّ إلى فتح الأبواب والنوافذ له ..
وبسبب هذا التأثير المعاكس، استمدّ الغرب قوة من روسيا، وبدأت آدابه تشهد طفرةً نوعية، فظهرت أسماء جديدة وكبيرة، مثل كافكا وهيرمان هيسه وجيمس جويس، وصولاً إلى ميلان كونديرا، الذين استوعبوا بدورهم الأدب الروسي وهضموه، وأبدعوا استلهاماً من معينه، وتأثّراً بإبداعات قاماته، ودوستويفسكي إحداها، فنحن لا نستطيع أن نقرأ "صرصار" كافكا، مثلاً، من غير أن نتذكّر "أنف" غوغول. والاثنان عظيمان، وكتبا بلغة تنبع من الزمن الذي عاشا فيه. وطبعاً، لا بد من التعريج على إسهامات الشكلانيين الروس، ومنعرجات ميخائيل باختين الكبرى في النقد العالمي، وسحُب باسترناك الشعرية الماطرة (كان ستالين يقول لا تلمسوا ساكن الغيوم هذا، حين تأتيه تقارير المخبرين عنه). وكذلك على عبقرية شاغال في الفن التشكيلي، وماذا لو لم يكن هناك تشايكوفسكي وبحيرة البجع؟ وكيف سيكون حال السينما لو أزلنا اسم آيزنشتاين واكتشافاته وثورته في المونتاج. وبالنسبة لدوستويفكسي، يصعب تصوّر شكل الرواية العالمية بدونه.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية